علي شندب

الأثنين ١٥ آذار ٢٠٢١ - 13:14

المصدر: العربية

تخادم 8 و 14 آذار ومعادلة الجيش والراعي والحريري

رفع فبرايريو ليبيا شارة النصر بأصابعهم فرحا بإسقاط الناتو “نظام الطاغية” معمر القذّافي. ثم أكل فبرايريو ليبيا أصابعهم ندما، عندما وجدوا أنفسهم يتسوّلون ودائعهم ورواتبهم ومدخراتهم من المصارف، وباتت أزمة السيولة في المصارف وكأنها تحتاج لقرار جديد من مجلس الأمن لفرض عقوبات على حكام ليبيا الجدد وهم قادة ميليشيات فبراير وبرناير. سيف العقوبات الدولية لم يزل مشهرا بحق من يعيق عمل حكومة عبدالحميد الدبيبة الوليدة من رحم تفاهمات اقليمية دولية أفضت الى تقاسم ليبيا كمناطق نفوذ تمهيدا لتقسيمها بعد إعادتها لزمن الأقاليم الثلاث.
وما فعله فبرايريو ليبيا سبقهم اليه عراقيو المحافظات الشيعية الذين ثاروا لاجل لقمة العيش والخدمات في بلد كانت خيراته تصل لكل محتاج في أصقاع الأرض، ثم تحكمت به منظومات اللصوص اياها التي تحكمت بليبيا دون أن تحكمها.
واذا كان ما فعله العراقيون والليبيون من نتاج احتلال اميركي هنا، وعدوان ناتوي هناك، فإن ما فعله ويفعله اللبنانيون كان نتيجة حرب أخرى تشنها عليهم منظومة الفساد المال والسلطة والسلاح والأمونيوم. ولعل أفصح تعبير عن حال لبنان واللبنانيين هو ما كرره البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي سبق ووصف الحكام بأعداء الشعب اللبناني، الذي تحاول المنظومة اليوم وضع الجيش الذي هو من هذا الشعب بمواجهة الشعب كما حذر الراعي.
فما يجري في لبنان من انخفاض غير مسبوق لقيمة الليرة أمام الدولار، هو بسبب تلك الحرب المنظمة التي تشنّها المنظومة بالتكافل والتضامن ضد اللبنانيين، فنهبت المال العام عبر صفقات الكهرباء وغيرها، وسرقت أموال اللبنانيين عبر الهندسات المالية وغيرها، وحولت مسروقاتهم المليارية الى الخارج، تحت سمع ونظر هذا الخارج المتواطىء في أمكنة عدة مع مآلات الوضع اللبناني الذاهب الى ما بعد جهنم.
“غطوا على سلاحنا نغطي على فسادكم” المعادلة التي حكمت لبنان وتحكمت به حتى اليوم، والتي فضحتها ثورة 17 تشرين وعرّت أقطابها ومكوناتها دون أن تستثني منهم أحدا، وأطلقت 17 تشرين معادلتها القاتلة للمنظومة بكلها وكلكلها “كلن يعني كلن”.
كانت 17 تشرين بمثابة أمل حقيقي لانقاذ مستقبل لبنان المتوسط والبعيد، لأن حاضره ومستقبله القريب اغتالته المنظومة. تواطأ على 17 تشرين وفتك بها أطراف المنظومة من 8 و 14 آذار. فقد هوّل زعيم حزب الله على 17 تشرين وهدّدها واتهمها بالعمالة للسفارات، ثم عمل على فرزها وتصنيفها واختراقها ورفع السيف في وجه بعض رموزها، والتهويل بالادعاء عبر القضاء وغير القضاء على رموز آخرين أعلنوا أن حزب الله هو حامي منظومة الفساد والمدافع عنها. وقابل تهويل نصرالله على 17 تشرين ركوب بعض رموز بقايا 14 اذار المستولدة من رحم اغتيال رفيق الحريري، لموجة 17 تشرين ومزايدتهم عليها وتحميلها حمولة مطلبية كبيرة خصوصا بعد تقافزهم من مركب السلطة الغريق، وصولا الى حد ادعائهم أبوة وأمومة حراك 17 تشرين، ولم تنسى هذه الرموز استهداف معادلة “كلن يعني كلن” وتفنيدها ودحضها تماما بما يتطابق مع ما ذهب اليه حزب الله وآله.
بدت أطراف المنظومة في تخادمها مهمومة في تنزيه نفسها عن الفساد وسرقة المال العام ونهب مستقبل اللبنانيين قبل ودائعهم، واستمرت في لعبتها الطائفية القذرة التي يتناتشون فيها صلاحيات باسم الطوائف التي ابتلعها الفقر والعوز والجوع والمرض، ما أعاق ويعيق تشكيل حكومة من خارج المنظومة، تحظى بثقة اللبنانيين والمجتمع العربي والدولي.
تخادم 8 و 14 اذار متناسل من التخادم الأكبر بين الولايات المتحدة وجمهورية ايران، انه التخادم الذي انطلق من لحظة احتلال العراق، وأخذ ابعاده الاستراتيجية بعد الرقصة الأوبامية الخامنائية عقب توقيع الاتفاق النووي. الرقصة النووية التي سمحت لايران بالتغوّل في المنطقة عبر أذرعها الضاربة التي باتت جيوشا رديفة لجيوش البلدان المتواجدة فيها، من العراق الى اليمن وسوريا ولبنان..
لقد هزّت 17 تشرين تخادم أطراف المنظومة هزاّ عنيفا، وصدعت أركانه، وأنتجت سلسلة من المواقف البارزة. أولها، موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي التي بدت في حدتها وجرأتها ووضوحها خصوصا لجهة المطالبة بالحياد وبمؤتمر خاص حول لبنان برعاية الامم المتحدة لتثبيت وجود الكيان ومنعه من الزوال، كمن يرفع الغطاء عن رئيس الجمهورية لا رأسها، لأن الرأس هو في حارة حريك.
ثانيها، موقف بهاء الحريري، الشقيق الاكبر للرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري، إنه الموقف الذي يصنّف شقيقه الأصغر ضمن بقية أطراف منظومة الفساد والمال والسلطة والسلاح، وهو الموقف الذي يوازي في أبعاده البيولوجية والايديولوجية ما ذهب اليه البطريرك الراعي من رفع الغطاء عن بعض أبناء كنيسته ورعيته.
ثالثهما، موقف قائد الجيش العماد جوزف عون غير المسبوق ايضا في جرأته وتصويبه على المسؤولين غير المسؤولين ومحاولتهم الحثيثة في وضع الجيش بمواجهة الشعب الجائع. وقد بدت مواقف قائد الجيش التي لم تزل تخضع للفحص والتشخيص بالميكروسكوبات الدقيقة بمثابة البيان الذي يسبق البلاغ رقم واحد.
انه البيان المتجاوز لقرع جرس الانذار سيّما وأنه تضمن تذكيرا بما تعرض له الجيش عام 1975 وليس عام 1984، أي يوم خرج “جيش لبنان العربي” على المؤسّستين السياسية والعسكرية معا، وليس يوم انقسم الجيش وتحوّل الى ألوية مذهبية ومناطقية. وهذا ما كشفه تعهد العماد جوزف عون بالحفاظ على وحدة الجيش وتحريره من قبضة المتحكمين ببعض مفاصله ومساراته وسياساته وخصوصا طرفي تفاهم مار مخايل حزب الله والتيار الوطني الحر. صرخة قائد الجيش اللبناني ليست الا تعبيرا عن مخاوف من تسلل مناخات جدية مشابهة لتلك التي انطلقت عامي 1975 و 1984 التي انتهت برئيس الحكومة العسكرية ورئيس الجمهورية الحالي ميشال عون هاربا ولاجئا الى أحضان الأم الحنون فرنسا.
أكثر من يعرف ميشال عون الرئيس، هم ضباط وجنود الجيش اللبناني، الذي يسجلون له عناده ولو عن غير حق، حتى لو كلفه ذلك أن يسحق مع لبنان أو بعده لتكون وجهته هذه المرة ايران بوصفها الأم الحنون الجديدة التي وخلال سعيها الدؤوب لانتاج السلاح النووي دمرت نصف بلاد العرب، ولتستأنف تدمير النصف الباقي من البلاد العربية لحظة استئناف الرقصة النووية بين البايدنية والخامنئية، المموّهة بسعي مزعوم “لتحرير فلسطين”.
انها الرقصة التي تخللتها تحولات جيواستراتيجية لافتة على مستوى المنطقة، تحولات تمسك موسكو فيها دفة القيادة الأمامية بما يشي بامتلاكها تفويضا لتدوير زوايا خرائط مناطق النفوذ الجديدة وفق ما عبر عنه الانفتاح العربي الواسع والمستجد تجاه دمشق من جهة، ومساعي تركيا الملّحة لتطبيع علاقاتها مع مصر والدول الخليجية ولو كلفها الأمر التضحية بالاخوان المسلمين من جهة أخرى. وذلك بسبب العزلة العميقة التي وضع اردوغان تركيا فيها نتيجة سياساته المتطابقة مع ايران في استعداء الدول العربية من جهة، وخوف الاردوغان ممّا بيّته له جو بايدن أثناء خلال سعيه الانتخابي الى البيت الأبيض من جهة أخرى.
وسط هذه الاوضاع الصاخبة، تكثف العواصم الاقليمية والدولية توصيفاتها للحالة اللبنانية، وتراقب عن كثب مآلات الحراك الدبلوماسي الروسي المستجد في الملف اللبناني خصوصا بعد فشل وإجهاض المبادرة الفرنسية التي تعرض صاحبها ماكرون لحفلة “خيانة جماعية” نتيجة عدم تشكيل حكومة المهمة لانقاذ لبنان، لكن ما يجدر التوقف عنده هو استدعاء موسكو لوفد قيادي من حزب الله لوضعه بصورة التحولات في المنطقة، وأغلب الظن أن الحزب الذي سبق وهلّل لتدخل روسيا في سوريا ومحاولته تظهيرها كعضو في حلف الممانعة، اصطدم بغفوة الردارات الروسية أمام الطيران الاسرائيلي وهو يستهدف مواقع ايران والحزب في سوريا. رغم هذا فحزب الله يجيد التنازل للخارج بنفس الكيفية التي يجيد فيها الانحناءة للعواصف دونما تظهير تراجع هنا، أو انكسار هناك. ويرجح أن حراك رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يعبر عن التحولات العميقة في موقف حزب الله وآخرها تفعيله لمبادرته في محاولة إزالة العقد من أمام تشكيل الحكومة بوصفها أحد نتائج زيارة الحزب الى موسكو المهتمة بكشف مصير جثث الجنود الاسرائيليين في لبنان وبينهم الطيار “رون أراد” أكثر من أي أمر آخر.
اهتمام العواصم الاقليمية والدولية بلبنان ليس إعجابا بالتبولة وفرقة كركلا، وإنما خوفا من التداعيات الدراماتيكية على هذه العواصم من بلد يعج بملايين النازحين واللاجئين السوريين والفلسطيين والذين سيضاف اليهم ملايين اللبنانيين الذين سيمّمون مراكبهم وقواربهم شطر الشواطىء الاوروبية اذا ما أضيف للانهيار المالي والاقتصادي انهيار أمني يقوّض الدولة ويشيع الاغتيالات والفوضى المجتمعية، إلا إذا حدثت معجزة بعد انتهاء عصر المعجزات.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها