علي شندب

السبت ٥ حزيران ٢٠٢١ - 18:20

المصدر: العربية

تويتر والاستعصاء اللبناني

الاستعصاء يلفّ الواقع اللبناني، المثخن بأزمات تناسلت أزمات تقوّض أي بارقة أمل في إنقاذ لبنان. فالتغيير الكبير الذي طرأ على البُنى السوسيوسياسة، والسوسيولوجية، والسوسيواقتصادية، فضلا عن السوسيوعسكرية، أدّى لإنتاج نسبة توازن قوى جديدة مختلفة عن تلك التي أنتجت اتفاق الطائف.

وباتت الأوزان المتضخمة للبُنى الجديدة متجاوزة للقدرة الاستيعابية لاتفاق الطائف الذي بات دستور البلاد. ونعني بهذه البُنى ح-ز-ب ا-ل-ل-ه الذي ورث دور سوريا في لبنان بعد خروج الجيش السوري إثر اغتيال رفيق الحريري. وبات ح-ز-ب ا-ل-ل-ه عبر مروحة تحالفاته وخصوصا “تفاهم مار مخايل” الذي أبرمه عام 2006 مع “التيار الوطني الحر” برئاسة ميشال عون، الناظم الوحيد للنظام اللبناني وضمنا للحياة السياسية اللبنانية.

وقد ضاعف من حالة الاستعصاء الأدوار الإقليمية التي لعبها ح-ز-ب ا-ل-ل-ه، والتي ضخّمت من قوة الحزب لبنانيا وإقليميا، ما دفع الحزب لاعتبار لبنان تفصيلا صغيرا في مشروعه الإقليمي المتفرع من تغوّل إيران في المنطقة عبر العراق، وبهذا المعنى باتت أدوار الحزب أكبر من أن يتحمّل لبنان شعبا ودولة تبعاتها، لاسيّما أنها كانت على حساب لبنان وعلاقاته العربية والدولية. وقد انعكست هذه الأدوار انهياراً اقتصادياً ومالياً، وانتشاراً للفساد، وتعميماً للتهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية.

“لبنان طاعون ينبغي الحجر عليه”، عبارة لوزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتز. إنه الحجر غير الكوروني الذي يعيشه لبنان بعدما بات يعتلي عرش تصنيع المخدرات وتسويقها عبر مرفأ بيروت الذي لم ينه دوره انفجار الأمونيوم، فكان لا بدّ من تفجيره بشحنات الكابتغون العابرة للبحار باتجاه السعودية والعالم.

إنها العلاقة غير السرية التي نشأت بين أطراف الطبقة السياسية إياها، وأدى تخادم هذه الطبقة وتحالفها بهدف تأمين مصالحها، تحت شعار “غطوا على فسادنا، نغطي على سلاحكم”، لإنتاج ما سمّي بمنظومة الفساد والأمونيوم والكابتغون والمال والسلطة والسلاح، التي تدفع لبنان بقيادة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى جهنم.

فوسط تضخم النفوذ والأدوار المتجاوزة والموازية لتضخم النقد والاقتصاد، يتسيّد الاستعصاء في تشكيل الحكومة وفق المواصفات الفرنسية ما جعل وزير خارجية فرنسا يتعهد بالثأر لرئيسه ماكرون من مفتعلي الخيانة الجماعية التي استهدفته من مسؤولين لبنانيين سبق وأبلغوه في قصر الصنوبر موافقتهم على مبادرته وتعهّدوا بتنفيذ بنودها الإصلاحية، ما دفع فرنسا لفرض عقوبات غير ملموسة على مسؤولين لبنانيين لم تؤثر فيهم العقوبات الأميركية.

بعد حرب البيانات والقصف المركّز بين جبهتي فريقي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف، كشف الغبار عن المعادلة التي تحكم طبيعة الصراع حول تشكيل الحكومة، التي أوكل زعيم ح-ز-ب ا-ل-ل-ه بوصفه مرشد الجمهورية إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري مهمة ردم الفجوة بين ميشال عون وسعد الحريري.

إنّها المهمّة التي جعلت من نبيه بري عرّابا للمصالحات وحَكَما بين طرفي تشكيل الحكومة المتخاصمين، بنفس القدر الذي نزعت فيه عن ميشال عون صفة “الحَكَم” وصنّفته طرفا. وفي هذا ما ينزع عن عون حياديته وأبوته لكل اللبنانيين والأهم تظهير عجزه عن تطبيق الدستور والسهر عليه ولو ضوء شمعة أو قنديل، في لحظة تصاعدت فيها فضائح سمسرات البواخر الكهربائية التي استجلبها وريثه الإيديولوجي جبران باسيل.

ويبدو أن عون وفريقه تنبّها لمهمة الحَكَم نبيه بري، فالتفوا عليها وقصفوها في مهدها، من خلال إطلاقهم توجيه رئيس الجمهورية الدعوة لطاولة حوار في القصر الجمهوري، وهي الطاولة التي استهجنها البطريرك الماروني بشارة الراعي في سياق استهجانه لما سمّاه الكلام المهين بحق رئيس الجمهورية الذي ورد في بعض البيانات، ويقصد بيانات تيار المستقبل التي رفضت طاولة الحوار ونالت من الرئيس الذي بات واجهة لأجندة صهره باسيل. لكن البطريرك الراعي لم يعبر عن المجروحية حيال فيديو رئيس الجمهورية الشهير الذي يصف فيه شريكه الدستوري في تشكيل الحكومة سعد الحريري بالكذّاب.

التفاف عون وفريقه الباسيلي وتصويبهم على مبادرة نبيه بري، هو استهداف ضمني لحسن نصر الله بوصفه صاحب التفويض الذي لم يستشعر عون وفريقه انحيازه لمصلحتهم ضد الحريري، بل إن نصر الله برأيهم لم يفاضل بينهم وبين الرئيس المكلّف، ما دفعهم إلى نسف مبادرة بري فعلياً وإعلان تمسكهم بها قوليا، وينطبق على هذه الحالة كلام للسفير السعودي وليد بخاري عبر تويتر يقول “علّمتني التجارب أن الخطاب السياسي، الذي يحمل وجهاً غير دلالته، لا يضع أساساً متيناً لبناء الثقة”.

إذن لم يعد سراً أن تشكيل الحكومة إن حصل، سيمر حتماً وحكماً بكسر أحد طرفي التشكيل، وفي هذا ما يجعل الاستعصاء متسيّداً الموقف. فما هي الأسباب الجوهرية لهذا الاستعصاء، وهل هي فعلاً بسبب اختلاف على تموضع وزيري العدل والداخلية، وعلى مرجعية “وزيرين مسيحيين” يرفض فريق عون باسيل أن يسميهم الحريري؟

بداية لا بد من التأكيد أن فريق عون باسيل، يريد تعديل الدستور رسمياً بعدما عدّلوه ممارسة، بخلاف ما يعلنوه حالياً. فقد سبق لميشال عون وتكتله النيابي أن تقدموا بتاريخ 21/ 8/2014 بمشروع قانون لمجلس النواب يقضي بانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب على دورتين، الأولى يختار فيها المسيحيون مرشحهم، والثانية يختار فيها اللبنانيون مرشحاً من المتقدمين بين المرشحين المسيحيين في الدورة الأولى.

لكن سعي فريق عون باسيل باتجاه تعديل الدستور وفقاً لمصلحتهم، يقابله طرح “المثالثة” التي تستجيب مرحلياً لطموحات الثنائي الشيعي خاصة ح-ز-ب ا-ل-ل-ه رغم إمساكه بمفاصل الدولة وإدارتها وفقاً لما يخدم أجندته الخاصة. ولهذا كان لافتاً إعلان باسيل المتأخر رفضه صيغة حكومة “الثلاث ثمانيات” لأنها تخفي “مثالثة مقنّعة”، وهذا ما عرضناه في مقالنا السابق بعنوان وساطة “بري بين عون والحريري باتجاه المثالثة”. وفي رفض باسيل هذا ما ينسف أسُس وأعمدة مبادرة بري في حكومة الثلاث ثمانيات المدعومة من مصر أيضاً. هذه هي الأسباب المعلنة للاستعصاء، أما الأسباب الحقيقية فتكمن في كيفية ضمان طرفي التشكيل (ونعني باسيل والحريري) لمستقبلهما السياسي.

فسعد الحريري ببساطة متناهية، يريد تشكيل حكومة بعيداً عن جبران باسيل، لأسباب تتصل بتعدّي عون وباسيل على موقع رئاسة الحكومة واستضعافه وتحويله مجدداً إلى أقل من “باش كاتب”، عندما أشغلوا الموقع بالتضامن والتكافل مع ح-ز-ب ا-ل-ل-ه بحسّان دياب، الأكاديمي الذي تنطبق عليه مواصفات الاختصاصي، لكنه لا يمتلك أي حيثية سياسية وشعبية، والعاري من أي رداء سُنّي. وفي هذا الإشغال، تطاول استفزّ البيئة السُنيّة التي حمّلت سعد الحريري وسوء أدائه مسؤولية ما آلت إليه أوضاع موقع الطائفة الأول في الدولة. والأهم مما تقدم، أن الحريري يريد من تمسّكه بتشكيل الحكومة فك الحجر والعزلة السياسية المفروضة عليه خليجياً لأسباب كثيرة.

أما جبران باسيل، المزنّر بعقوبات أميركية صنّفته فاسداً وفق قانون ماغنيتسكي العالمي، فمستعد لدفع لبنان إلى ما بعد ما بعد ما بعد جهنم، إذا لم تُعقد التسوية التي توصله إلى رئاسة الجمهورية. ولهذا فإنّه يضع العصي كيفما اتفق في دواليب التشكيل، ليقول بأنّه الحاكم الفعلي الذي بدون موافقته فلا حكومة ستتشكل وليذهب لبنان إلى الجحيم. وبهذا يقتدي باسيل بعمه ميشال عون الذي سبق وعرقل تشكيل الحكومة عدة أشهر قائلا “لعيون صهر الجنرال ما تتشكل الحكومة”.

استعصاء صنعه برأي أحد الخبثاء النجباء، وجود تخادم مضمر بين الحريري وباسيل، تخادم يهدف إلى دفع فارضي العقوبات الأميركية والحجر الخليجي، إلى تعليق العقوبات، وفكّ الحجر، كمهر مسبّق لإطلاق سراح تشكيل الحكومة، في سياق تسوية تنتج جبران باسيل رئيساً للجمهورية.

الاستغباء، بات بديل الذكاء، الذي كان سمة اللبناني حول العالم. لكن ثنائي الحريري باسيل لم يقتنعوا بعد أن 17 تشرين لفظتهم وبقية الطبقة السياسية، وربما “تويتر” وحده القادر على إقناعهم ومن على شاكلتهم بمغادرة المسرح. ربما عليهم أن يتعلموا ويعلموا أن سقوط ترمب عن عرش تويتر يوازي خروجه من البيت الأبيض، كما أن إيقاف نجل نتنياهو عن التغريد استهداف له ولوالده الذي لم يستعد لمغادرة المشهد.
اللبنانيون يتوسلون تويتر.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها