حارث سليمان

الأثنين ٥ نيسان ٢٠٢١ - 09:53

المصدر: جنوبية

حذاري الاستثمار بالانهيار او الركون للتدويل

تبدو ازمة لبنان عصية على الحل، ويبدو سلوك المنظومة الحاكمة بكل اطرافها، عبثيا مستهترا فجماعة الحكم ليسوا على عجلة من امرهم، فيما يلعب الوقت دورا حاسما في رفع كلفة الازمة واعبائها، وصولا الى استعصاء الحل و إنسداد سبل الخروج من المأزق، بحيث يستحيل الانقاذ وعودة العافية الى بلد في لجة الانهيار.
وسلوك العبث والاستخفاف بمصير شعب بكامله ليس جديدا، بل هو نهج استمر عبر سنوات طويلة، وتزايد وتعاظم خطره يوما بعد يوم متراكما، معديا ، متفشيا، كوباء مستفحل، فقد بدأ فسادا موصوفا للتربح من السلطة، والاثراء غير المشروع من صفقاتها وتعهداتها، ثم انتقل الى استباحة مرافقها العامة ومؤسساتها، والى انتهاك قوانين الوظيفة العامة وشروط تسييرها، وصولا الى جعل ادارة الدولة وسلطاتها، هيكلا لا فائدة منه لعدم كفاءته، وجسما خاويا، يندرج في مرتباته جيش من المحاسيب والازلام، لا انتاجية له ولا عائد ذي جدوى لكلفته.
مع استشراء الفساد والاستباحة اصبحت الدولة عاجزة عن القيام بمسؤوليتها، فتعطلت وظائف مؤسساتها، واختل انتظام سير اعمال سلطاتها، جميع سلطاتها، فانهارت سلطة المعايير ومرجعياتها الآمرة، واصبح تسيير امور البلاد والعباد من خارج المؤسسات، وخلافا للقانون وتعطيلا لروح الدستور ونصوصه، ونما واستكبر اقتصاد اسود، يوازي الاقتصاد الحقيقي ويحاصره، عبر التهريب الجمركي والسوق السوداء والجرائم البيئية وسرقة الموارد الطبيعية وتجارة المخدرات و الادوية والحديد وغيرها من الاصناف المتدنية الجودة والمواصفات.
كان يمكن لهذا القدر من الفساد ان يستمر طويلا، بحيث يدار التعايش بين قدر معقول من النهب المنظم والمقونن، وبين نشاط انتاجي في الاقتصاد الحقيقي ينتج فوائض ربحية تغطي خوات الفساد واقتطاعاته المنكرة، لكن جشع هذه المنظومة وفسادها واطماعها التي لا يحدها رادع او حتى تبصر أو بصيرة، اطلقت موجة نهب شاملة لا ضوابط بها، وخلقت دوامة جذب الى الياتها وممارساتها جعلت من قطاعات شرعية و إقتصادية شريكة في النهب المنظم ومنافسة ومبدعة في توسيع سبل الفساد وطرائق ممارسته، وخلاقة في زيادة عوائده المالية ونسب ارباحه غير المشروعة .
في صلب هذا السلوك قبل الازمة وبعدها، قبل الانهيار وخلاله، وهم قاتل جماعي هو انه مهما فعلنا في لبنان من حماقات وسرقات واساءات، ومهما اقترفنا من آثام وخطايا بحق وطننا وشعبنا، مهما عبثنا بمصائرنا ومصائر الاخرين من دول العرب والغرب، فانه في لحظة ما، وفي ظرف ما، سيتدخل العالم او الاقليم او الشقيق، لإعادة اصلاح ما خربناه، ولبناء ما دمرناه، وللصفح عن الجرائم التي ارتكبناها بحق وطننا او اوطان الغير، نحن لا نحاسب بعضنا، ونتوهم انه لن يأتي يوم، نخضع فيه لحساب الاخرين معنا، وان الشطارة هي ان نتكيف مع كل ازمة ، ان نستفيد منها، أن نعتبر كل مصيبة فرصة للربح او الاستفادة، او للاستثمار، وكأن كل صاحب فعالية او دور محكوم بعقدة وسلوك مدمر ملخصهما : الاستثمار بالانهيار.
بهذه العقدة وذاك السلوك، تصرف امراء المنظومة السياسية، يوم بدأت تصنيفات المؤسسات المالية العالمية تحذر من تراكم الدين العام، نتيجة توالي عجوزات الموازنات العامة، ويوم دقت الدول المانحة في مؤتمرات باريس١ و ٢ و٣ ثم مؤتمر سيدر، ناقوس الخطر من غياب اصلاح بنيوي حقيقي في مرافق الدولة واداراتها، فاعتبر امراء المنظومة الازمة فرصة لزيادة منهوباتهم عبر توزيع واقتسام مشاريع سيدر وتلزيماته، وبعقل الاستثمار في الانهيار، اعتمدت مناورة الهندسات المالية، لمداواة عجز ميزان المدفوعات الذي تراكم منذ سنة ٢٠١١ حتى اليوم، وتم منح نسبة فوائد باهظة، تفوق اضعاف النسب العالمية الرائجة، وقام مصرف لبنان بقيد مبالغ هائلة وملايين دولارات وهمية غير موجودة، كان لا يملكها، ودون وجه حق، في حسابات مودعين من اصحاب السلطة والحظوة، لتبلغ قيمة هذه المبالغ أكثر من ٢٥ مليار دولار اميركي.
وعلى مبدأ الاستثمار بالانهيار قامت ادارات المصارف وبعض كبار الشأن في السلطة والاعمال بتحويل ٣٠ مليار دولار الى خارج لبنان خلال سنة ٢٠١٩ فقط، وكانت سبقتها تحويلات مبالغ اقل شأنا في سنة ٢٠١٨، فدفعوا وتيرة الانهيار الى سرعة اعلى، وعمقوا الازمة بدل تلافيها، وبدل اللجوء الى قانون تجميد الرساميل والتحاويل، تركوه انتقائيا يطبق على عموم الناس ويستثني صفوة المنظومة في تحالف الميليشيا والمافيا، فيما انبرى احد ممثلي الامة لوصف تهريب الاموال والودائع الى الخارج، استباقا للانهيار بل تسريعا لخطواته، لوصف هذا التهريب كحصيلة ذكاء وفطنة، مقابل غباء وحمرنة كل مواطن راهن على عافية وطنه واستقرار نقده، ومتجاهلا ان التربح او تجنب خسارة، عبر التداول من الداخل، هي جريمة موصوفة في قانون النقد والتسليف (قانون ١٦٠/٢٠١١)
وعلى مبدأ الاستثمار في الانهيار، اكتفى اصحاب البنوك وادارات المصارف بان يحولوا ما طالت ايديهم من ودائع زبائنهم الى حساباتهم في الخارج ، مسجلين جريمة غير مسبوقة في التاريخ البشري، وهي ان يقوم اصحاب وادارات بنوك، لقطاع مصرفي كامل، بسرقة ودائع زبائنهم علنا جهارا دون رادع، وبتغطية من قضاء السلطة الشرعية والحوكمة النقدية وتجاوزا لقوانينها.
هؤلاء جميعا لم يلجؤوا لاي محاولات لمنع انهيار مؤسساتهم، فكيف لصاحب بنك ان لا يسعى للحفاظ على بنكه واستمراره!؟ لا بشكل جماعي على صعيد مجمل القطاع، ولا بشكل فردي؛ كأن نجد بنكا مثلا، امتنع منذ مدة عشر سنوات عن اقراض الدولة، وتعفف عن الاستفادة من ارباح الهندسات المالية، وفوائد الربا الفاحش، فبقي سليما، بارباح قليلة، وبقيت ودائعه محفوظة لاصحابها وسيولته قائمة متداولة، هؤلاء وخبراؤهم واعلاميوهم ،بدل ان تعلوا وجوههم علامات الخزي والعار والندم، وبدل ان يبحثوا عن اجوبة لألاف الناس ممن ضاعت ودائعهم، عن مصير اكثر من ١٢٠ مليار دولار اختفت في نظامهم المصرفي، مازال البعض منهم يلاحق ٥ مليارات انقذها اصحابها من الضياع واودعوها طي وساداتهم.
الاستثمار بالانهيار سلوك اجرامي بربحية عالية، لذلك يمكن له ان يتفشى من الحكام الى كل الفئات، الى اصحاب الافران، محطات الوقود، سائقي التاكسي، تجار اللحوم، مستوردي المنتوجات الغذائية والسلع التموينية، الصيادلة ووكلاء الادوية، موظفو الدولة والبلديات، اصحاب المدارس والمستشفيات، مربو الدواجن ومنتجو البيض والفروج، مصانع الاجبان والالبان، المزارعون وتجار الخضار والفاكهة.. . الخ جيش يبدأ من كل بيت ولا ينتهي! جميعا يستثمرون بالانهيار ويعمقون الامه وتداعياته واوجاعه… غرقى تستنجد بغرقى … ضحايا تركل ضحايا… من يوقف الانهيار! من يعيد التعافي! من يخرج لبنان من حفرته، اذا كان كل هؤلاء يستهوون الحفر وبقوة وثبات او يدفعون اليه خوفا، طمعا، أو بغريزة حب البقاء.!
فاطلاق موجة من النهب العام هي صنعة منظومة الفساد والفشل والتفاهة والارتهان الى الخارج، فلكي تنجو هذه المنظومة بجريمتها، تقوم بدفع الناس كي يتناهبون، كشرط حيوي لكي يعيشون، ويستمرون. فهل يدرك العقلاء الامر ويواجهون!؟
وعلى الرغم من ضجيج الصخب وترجيع الاصداء، تبقى المعالجة حيث الصوت وليس حيث تتردد الاصداء، فثمة فارق بين الأصل والفرع بين المرض والعوارض بين الزلزال والموجات الارتدادية!!… وفيما تبدو انتفاضة ١٧ تشرين في حالة مراوحة وتقتصر تحركاتها على مجموعات صغيرة تتحرك في مناسبات ومواقع مناطقية متفرقة ، وتبدو كردود فعل على مظهر من مظاهر الازمة، كفقدان الوقود او غلاء الرغيف، او احتكار السلع المدعومة، وهي تحركات ونشاطات تواجه من حاول استغلال جوع الناس وعوزهم، واحتكر اصنافا هي من حق المواطن العادي، ليتم بيعها لاحقا بأسعار أعلى، او تهرب الى خارج لبنان مستنزفة رصيد احتياط مصرف لبنان وعابثة بلقمة عيش كل لبناني، بالرغم من كل ذلك فان العدو الحقيقي ليس هؤلاء، وان كانوا قد ركبوا موجة الازمة للتربح الحرام منها.
العدو الحقيقي للشعب اللبناني هي المنظومة السياسية بكل اطرافها، وهي سبب الازمة والافلاس والجوع والبطالة والارتهان للخارج والتفريط بالسيادة الوطنية على حدود العدو كما على حدود الشقيق، والانتفاضة و وقواها الوازنة مطالبة بحسن التسديد وسلامة اتجاه البوصلة.
ومطالبة ايضا بالارتقاء في معركتها الى حدود المسؤولية عن الشعب والمصير، فلن يوقف الانهيار الا هزيمة المنظومة وشل فعاليتها وحركتها وترحيلها، وهذا الامر مشروط بالامور التالية :
• انتظام كتلة ثورية حرجة،
• لديها اجندة سياسية واضحة وحاسمة، ومشروط ايضا ب
• تشكيل قيادة سياسية وازنة توحي بالثقة لشعب لبنان ولدول العرب والعالم، قيادة تؤتمن على مصير البلد والاجيال وتعلق عليها آمال التغيير والانقاذ.
فالتدويل رغم اهميته ليس متاحا اليوم وان كان ممكنا لاحقا، لكن حصوله مرهون اولا واخيرا بتوافر نصاب ثوري داخلي يؤمن ارضية لبنانية جامعة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها