منى فياض

الأحد ١٤ آب ٢٠٢٢ - 07:51

المصدر: الحرة

دور السياسات الطوائفية في تأجيج الصراعات  

استعرض وجيه كوثراني في كتيب عنوانه “اشكالية الدولة والطائفة والمنهج في كتابات تاريخية لبنانية”، علاقة الطوائف  بالدولة اللبنانية، مظهراً تأثرها بإيديولوجيات نبعت من التيارات الفكرية الفاعلة في التاريخ العربي المعاصر. لكني سأكتفي هنا باستعراض مقولات كمال الصليبي.  

صدر هذا الكتيب في العام 2014، أي قبل ان توصلنا سياسات الممسكين بزمام الطوائف والدولة الى جهنم. 

كان السؤال في لبنان دائماً: كيف نصلح هذه الدولة وكيف نبني وطنا، يعلي فيه المواطن انتماءه لوطنه ودولته وجنسيته، التي بالمناسبة نسميها “تذكرة هوية”، والقصد من التسمية جعلها تذكرة سفر وولاء الى الدولة اللبنانية، لتغليبها على  الولاءات الهوياتية الاخرى. لكن تلك السياسات عمّقت ارتباط اللبناني بهويته الطائفية والمذهبية وأضعفت هويته الوطنية وولاءه للدولة!!  

من المسلم به ان اللبنانين طالما اختلفوا على تاريخهم، لاختلافهم على فكرة الدولة اللبنانية والانتماء اليها. كان الحل قوننة الميثاق الوطني، لا شرق ولا غرب، بنص دستوري ملزم: ” لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه وهو عربي الهوية والانتماء”. ولم يطبق. 

كان الصراع على من هو أحق بحكم لبنان والتحكم بأبنائه. مرة بالاستناد الى أسبقية وجوده على هذه الأرض – في منافسة جلية للفكر الصهيوني عندما برر احتلاله لفلسطين- ومرة لأنه سبب وجوده ومرة اخرى لأنه ملجأ للمضطهدين. لكن ولا مرة من باب الدفاع عنه ك “وطن” للجميع بالتساوي. فالكتابة التاريخية استهدفت غالباً كتابة تاريخ لدولة تتلاءم او تعبر عن مصالح او ايديولوجيا الطرف المؤرخ.  

اختار كوثراني نقاش كمال الصليبي لتمتعه بأخلاقية مهنية وبصدقية عالية و يعتمد منهج تاريخي علمي.   

عالج الصليبي مسألتان رئيسيتان: 

المسألة الاولى: مرجعية فخر الدين والامارة اللبنانية. طرح السؤال الإشكالي التالي: هل لهذه الامارة ميزة او ميزات تجعلها ذات خصوصيات، تبرر القول بانها كانت الصيغة التاريخية، او النواة، المؤسسة او الممهدة للدولة اللبنانية الحديثة؟ وان بطلها فخر الدين المعني؟  

توصل كمال الصليبي، عبر منهجه التجريبي، الى انه لا يرى اساسا لهذه الخصوصية. 

المسألة الثانية: كيف يتصور اللبنانيون ماضيهم؟ هل يصلح هذا التصور، وهو غالبا تصور طوائف لماضيها، اساسا لبناء لبنان جديد؟ 

بالنسبة لفخر الدين، هو رسميا ملتزم لجباية الضرائب لا غير في المناطق التي يسيطر عليها. لكن مكانته كانت تختلف من منطقة الى اخرى. كان له في الشوف حكم تقليدي موروث مستقل عن الالتزام الرسمي المرتبط بالدولة، وكان لفخر الدين في كسروان تبعية تلقائية بين الموارنة. اما خارج تلك المناطق فكانت سيطرة فخر الدين مجرد التزام من الدولة العثمانية تدعمه قوة الأمير العسكرية. 

لكن هذا التوصيف لا يمنع من إعادة الاعتبار لفكرة فخر الدين كأسطورة (mythe) لها دورها في أسطرة التكون التاريخي للبنان الحديث. بدأت هذه الاسطورة صغيرة ثم نمت مع نمو لبنان حتى اصبح فخر الدين اليوم رائد الاستقلال اللبناني ورمز الوحدة. 

المشكلة، كما يقر الصليبي، ان هذه الاسطورة لا يُجمع عليها اللبنانيون كصورة وطنية جامعة او تاريخ وطني جامع. حاول معرفة كيف يتصور اللبنانيون ماضيهم في كتابه : “بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصور والواقع”. تتلخص وجهة نظره بالتالي: 

لا يمكن لطائفة ان تفرض نظرتها الى تاريخ لبنان على الطوائف الاخرى، وبعد ان يستعرض 3 تجارب طائفية فشلت في كتابة تاريخ مدرسي، يخلص الى انه لا بد من حملة تنظيف عامة في بيوت العناكب المنسوجة داخل البنى الطائفية والمذهبية المختلفة في البلاد لازالة جميع الاحكام المسبقة والاحكام المسبقة المضادة المتعلقة بماضي لبنان وماضي العرب؛ أكان من وجهة نظر القومية العربية الدمجية ام من وجهة نظر القومية اللبنانية التي تسعى الى الخصوصية، أو في البحث في الفينيقية او الامارة او نظرية الملجأ.  

لا يمكن بناء تاريخ وطن – دولة على تاريخ سياسي مختلف عليه. لا بد من الاقرار والاعتراف بهذا الاختلاف على قاعدة البحث التاريخي الموصل الى حقائق تاريخية وان كانت هذه الحقائق لا تحمل معاني الوحدة الوطنية.  

وبناء عليه يطرح الصليبي على اللبنانيين – كجماعة سياسية – المهمة التالية:” عليهم ان يعرفوا بدقة لماذا هم لبنانيون وكيف اصبحوا لبنانيين، وهم لم يكونوا في الاصل الا مجموعة من الطوائف المتفرقة صودف تواجدها في بقعة واحدة من الارض. وان لم يفعلوا ذلك – بغض النظر عن الطريقة التي ستصلح الشجار الحالي في لبنان – فانهم سيستمرون في البقاء مجموعة من العشائر البدائية المتنافرة، تسمي نفسها عائلات روحية دون ان يكون لها اية علاقة بالروحانيات. 

السؤال المغفل او المسكوت عنه في هذا المشروع ، بحسب كوثراني هو التالي: ما هي شروط “الحاضر” التي تمكّن من تصحيح الاحكام المسبقة للوصول الى المعرفة الدقيقة، اي “العلمية” والتي يطلبها الصليبي؟ 

هل يطلبها منهم كطوائف او كأفراد ومواطنين؟ او كمؤرخين ذوي اختصاص؟ وفي الحالة الاخيرة ما العمل اذا اختلفت المدارس والمناهج والمفاهيم بين المؤرخين انفسهم؟ 

عندما يدعو الصليبي اللبنانيين بالجمع، لتنظيف بيوتهم من “العناكب”، أي من التشوهات التي أدخلتها الطوائف على تواريخها، فانه لا يفرق في الدعوة بين “لبنانيين” يفترض مبدئياً أنهم مواطنون، وبين “طوائف” يفترض مبدئيا ايضا انها جماعات دينية او إثنية وليست جماعات سياسة او أحزاباً.  

هل يوجه الدعوة، الى المواطنين أم الى “الطوائف”؟ وبأية صفة، بالصفة الدينية – المذهبية أم بالصفة السياسية؟ 

يبدو ان كمال الصليبي يتوجه الى الطوائف كجماعات، مازجاً بين خصوصياتها الدينية والمذهبية وتطلعاتها السياسية، فيصبح التنظيف المطلوب يقوم على معادلة ميثاقية (ايضا): عروبة تهدئ من غلوها القومي الدمجي، ولبنانية تحد من المبالغة في تمجيد خصوصياتها ذات الطابع الطائفي – المسيحي. 

لكن التماثل ما بين التوافق السياسي والتوافق التاريخي، بل وجعل “التوافق التاريخي” شرطاً للتوافق السياسي، يغفل عدداً من المعطيات والحقائق المغفلة، هناك فرق بين الطوائف ذات الخصوصيات الدينية والمذهبية من جهة، وبين الطائفيات السياسية من جهة ثانية؛ فهذه الاخيرة تتجسد زعامات وأحزاب ومؤسسات وسياسات من شأنها تحويل الطائفة من حالة دينية ومذهبية وثقافية الى حالة كيان سياسي. ناهيك عن الفرق بين الذاكرة التاريخية الجماعية والمعرفة التاريخية. فالذاكرة الجماعية عفوية وأسطورية بطبيعتها وخالطة للأزمنة، بل وهي مخزن نفسي جماعي منقص للأخبار والصور احيانا او مضيف اليها احيانا اخرى، مزين او مشوه… وكلها تنشأ عبرالزمن، وبفعل وطأة الحدث الراهن واستفزازاته وتحدياته التي لا تكتفي بان يكون البشر فاعلين في الحاضر، بل مغيّرين ايضا للماضي، اكان باتجاه تقبيحه او تحسينه، تثويره ام تهئته بحسب الصراع بين القوى التي تستغل الهويات المختلفة.  

ما يتجنبه الصليبي: من هو المسؤول عن التجهيل والتشويه وبناء بيوت العنكبوت، او إدخالها الى بيوت اللبنانيين؟ أهو لاهوت الطوائف وعلم الكلام وفقهها؟ أم سياسيوها، ومن هم؟  

أليس المسؤول النظام السياسي المهيمن واشكال معينة من ممارسة السلطة وتوزيع الثروة وسياسات زبونية محددة في الاقتصاد والتنمية والتعليم توزيع الثروة… 

الهرم مقلوب هنا على رأسه. فما ينبغي تنظيفه ليس بيوت الطوائف (او تواريخها) ليستقيم أمر الدولة – الوطن، بل تنظيف السياسات اولا بالبرامج والخطط لبناء دولة – وطن، وتنشئة مواطن منفتح ومتفهم لخصوصيات الطوائف الدينية وذاكرتها التاريخية. 

وحتى العام1970، وعند عزوف الرئيس شهاب عن إعادة ترشحه للرئاسة، لم يكن قد حصل اي تقدم في مسيرة إرساء دولة المواطنية الرشيدة، وهذا كان من اسباب عزوفه وكتب في رسالته: 

ان المؤسسات السياسية اللبنانية والاصول التقليدية المتبعة في العمل السياسي، لم تعد في اعتقادي تشكل اداة صالحة للنهوض بلبنان وفقا لما تفرضه السبعينات في جميع الميادين، وذلك ان مؤسساتنا التي تجاوزتها الانظمة الحديثة في كثير من النواحي سعيا وراء فعالية الحكم، وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها احداث عابرة ومؤقتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كل ذلك لا يفسح في المجال للقيام بعمل جدي على الصعيد الوطني. ان الغاية من هذا العمل الجدي هو الوصول الى تركيز ديموقراطية برلمانية أصيلة صحيحة ومستقرة، والى الغاء الاحتكارات ليتوفر العيش الكريم والحياة الفضلى للبنانيين في اطار اقتصادي حر سليم، يتيح سبل العمل وتكافوء الفرص للمواطنين، بحيث تتأمن للجميع الافادة من عطاءات الديموقراطية الاقتصادية الاجتماعية الحق. 

ان الاتصالات العديدة التي اجريتها والدراسات التي قمت بها عززت قناعتي، بأن البلاد ليست مهيأة بعد، ولا معدة لتقبل تحولات لا يمكنني تصور اعتمادها الا في اطار احترام الشرعية والحريات الاساسية التي طالما تمسكت بها. 

مارس سياسيونا كل الالاعيب لتأجيج الصراعات الطائفية تأميناً لهيمنتهم على ابناء طوائفهم، تحت شعار حمايتهم. وما حفظهم في مراكزهم وأمن مكاسبهم، خضوعهم لمختلف الاحتلالات.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها