الأب د. نجيب بعقليني

الخميس ٩ نيسان ٢٠٢٠ - 09:01

المصدر: صوت لبنان

صلبوا ” الحياة”

أُصلُبهُ، أُصلُبهُهي صَرَخات أبناء أورشليم، الَّذين استقبلوا المسيح المَلِك، مُتَّكلين عليه أن يمنحهم الخلاص من نير الحُكم الرُّوماني، خاب ظنّهم، إذ أنّهم اعتبروا الخلاص زمنيّ وماديّ فقط، وفاتهم أنّ الخلاص الحقيقيّ، الَّذي أتى من أجله إبن الإنسان، هو خلاص الذَّات، والتحرُّر الداخليّ، والحدّ من الخطيئة، والانتصار قدر المستطاع على الضُّعف، للإستعداد إلى الدُّخول إلى ملكوت السَّماوات.

قبْلَ الحُكم على يسوع بالموت، صَدَحَت أصوات النَّاس وصُراخهم، في أرجاءِ ساحاتِ أورشليم، فتلقَّفها أصحاب السُّلطة والسُّلطان، وحكموا عليه بالموت.

كم يطالب وينفّذ إنسان هذا العصربصَلب أخيهِ على الصَّليب فوق الجلجلة يوم الجمعة العظيمة.

هذا المشهد الرَّهيب صنع حدثًا تاريخيًّا وزمنيًّا، طَبَعَ حياة البشريّة، بشتّى أنواع حالات التَّقارب الإنسانيّالإلهيّ. إنّها حقيقة تمَّت على الصَّليب من قِبَل المصلوب، من أجل خلاص الإنسان، كلّ إنسان يؤمن بقُدرة المسيح المائت على الصَّليب، ولكنّه المُنتصِر على الموت بالموت.

هذا المشهد الرَّهيب يومالجمعة الحزينةأوالعظيمة، عبَّر من خلاله إبن الإنسان عن تضامنه وحضوره وقُربِه وحبّه للبشريّة، عندما قَبِلَ أن يكونالتَّضحيةوالفِداء، أيّ سَفَكَ دمَهُ من أجل مغفرة الخطايا، وإعطاء الخلاص لأبناء الأرض. أَلا يحقّ لنا أن نردّدنسجدُ لكَ أيّها المسيح ونباركُكَ، لأنّكَ بصليبكَ المقدَّس خلَّصتَ العالم؟ أَوَليس هذا أصدق وأجلّ تعبير عن حبّ الله للبشريّة؟ أَلا تُقاس المحبّة بالعطاء والبَذل والتَّضحية وتحمُّل الألم والحضور الدائم؟هكذا أَحبَّ الله العالم، فبَذَلَ إبنه الوحيد” (يو٣: :١٧).

أينَ إنسان هذا العصر، أينَ المؤمنين بيسوع المسيح، من هذا الفِداء والحبّ في زمن إنتشار كلّ أنواع الأوبئة؟ هل لدى كلّ مؤمن الجرأة للوقوف أمام ذاته، ومواجهة نفسه لا سيّما في هذه الظروف العصيبة والخطرة، الَّتي تمرّ بها الكرة الأرضيّة؟ هل المؤمن على استعداد بأن يكفّر عن خطاياه ورذائله، وأن يقرّر التَّعويض بالنَّدامة الصَّادقة والتَّوبة العميقة والجدّية، والتَّعويض الظَّاهر، المُعبَّر عنه بتغيير السُّلوك والتَّفكير والأداء، وفعل الخير والرَّحمة والعدل؟ أَم سيبقى متمسّكًابحالتهالتَّعيسة والمُزرية، بسبب خطواته الشِّريرة والسَّيِّئة، الَّتي تضرب حالة الإنسانيّة بالصَّميم، والعلاقة مع الله.

صلبواالحياة، وأشبعوها موتًا بسبب جَهلِهم، لكن المسيح انتصرَ على الموت، بإعطاء الحياة، لكلّ مُحتاجأَلحَقَّ ٱلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّ حَبَّةَ الحِنْطَة، إِنْ لَمْ تَقَعْ في الأَرضِ وتَمُتْ، تَبْقَى وَاحِدَة. وإِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرمَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يَفْقِدُهَا، ومَنْ يُبْغِضُهَا في هذَا العَالَمِ يَحْفَظُهَا لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّة.( يو١٢ : ٢٣). مات الله، لكنّه أعطى الحياةفكما أنّ الآب له الحياة في ذاته، فكذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته وأَولاه سلطة إجراء القضاء لأنّه ابن الإنسان […] أمّا الَّذين عملوا الصَّالحات فيقومون للحياة وأمّا الَّذين عملوا السَّيّئات فيقومون للقضاء” (يو ٥: ٢٦٢٨).

مات الله، ومع هذا لم تَمُت من حياة الإنسان، الضَّغينة والحقد والكراهية والإزدراء والبغض والانتقام والاستغلال، وكلّ أنواع الشُّرور، المُتربّصة بحياة كلّ شخص يرفض حبّ الله ووصاياه، من أجل حياة سلامٍ وأمانٍ. نَعَم، مات الله، ويبقى الإنسان يبحث عن ملذّاته الفانية، وتعلّقه المُستمرّ في حفنات الماديّات، الَّتي جلبت له التعاسة، والأنانيّة، أكثر من الرّاحة والطمأنينة والأمان.

نَعَم، مات الله، ليُعطي الحياة لخليقته. أخذَموت الإنسان” “وخطاياه، ليعطيه حياته. فهليعيهذاالحبّالكبيروالمجّانيوالكامل؟أَلايجبأنيستيقظالضَّميرالإنسانيّ،لاسيّمافيهذهالظروفالقاهرة،بالتَّعاضدوالتَّعاون،منأجلعيشالأخوّةالإنسانيّة،للحدّمنالإحباطوالخوفواليأسوالقنوط،والموتالنفسيّوالجسديّ؟هليمكنللإنسانتحمّلآلاموعذاباتوجروحالحياةاليوميّة؟هليمكنللمؤمنأنيرىآلامالسيّدالمسيح،أليمةوخيّرة،قاتلةومُحيِيَة،هوانومجد؟

أَعطِ يا ربّ المؤمن الشَّجاعة والقُدرة على التَّحمّل، والصَّبر وعدم الجحود.

أعطِ يا ربّ الَّذين يشاركونكَ مصير الصَّليب، أيّ الَّذين يتعرَّضون للإضطّهاد والظُّلم، ويعانون آلامًا مُختلفة، وقد قَسَت عليهم الحياة، من قِبَل قساوةِ قلوبِ البشر، فما من راحمٍ ومعين. نَعَم، يا ربّ وحّد آلامهم بآلامِكَ. وهَبهم نعمة التحمّل والصَّبر على معاناتهم، مُرسلاً لهم المُعزّي، وإخوتهم المؤمنين العاملين باسمِكَ“.

أَلَم يحن الوقت كي يشكر الانسان الله على نِعَمِه وعطاياه، بالرُّغم ما يحّل ويحصل بالعالم؟ أَلَم يحن الوقت كي يحدّ النَّاس من الثَّرثرة والنَّقد اللاّذع، والنَّميمة، والانتقال إلى الصَّمت والصَّلاة والعمل؟ أَلَم يحن الوقت كي ينظر الإنسان إلى الحياة بطريقةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ؟

نَعَم، صلبواالحياة، لكنّ الله أعطىالحياة…”

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها