سام منسّى

الأثنين ٢٤ أيار ٢٠٢١ - 09:28

المصدر: الشرق الأوسط

غزة وغياب الأفق السياسي لوقف النار

الحصيلة الآنية لحرب غزة 2021 هي الفشل الإسرائيلي. لا يختلف اثنان أن لإسرائيل قوة تدميرية هائلة قادرة على إلحاق الضرر الفادح بالفلسطينيين على الصعد كافة، لكن هذه القوة غير قابلة للترجمة في السياسة، فهي ومنذ حرب لبنان الأخيرة عام 2006 أعطت نتائج معاكسة لإسرائيل وأهدافها المعلنة.
نتائج هذه الجولة من العنف غير المسبوق هي صفر؛ لأنه يبدو أن وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه يفتقر إلى أفق سياسي، سواء لدى مجموعة اليمين الحاكمة واليمين المتشدد في إسرائيل، كما لدى حركة «حماس» والإسلام الجهادي وفريق الممانعة في الداخل الفلسطيني وخارجه، وهو صاحب الحصاد الأوفر ولو على حساب أرواح الأبرياء وخسائرهم المادية والمعنوية الجسيمة.
نشهد اليوم نوعاً من النشوة في أوساط حلف الممانعة، وبات بمقدوره كتابة مجلدات عن البطولات التي أنجزها والصواريخ التي أطلقها والمواقع التي وصلت إليها وخطورتها والإصابات التي تسبب فيها وعمق الارتباك في المجتمع الإسرائيلي والتعاطف الدولي الاستثنائي الذي حصده. وبالتالي، وبغض النظر عن المغالاة وبعض الافتعال الترويجي، حقق هذا الحلف مكاسب على مستوى الإقليم، بحيث أصبح باستطاعته الادعاء أنه أعاد الوهج إلى القضية الفلسطينية وأشاح النظر عن المشكلة اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية.
إلى هذا، فقد أضاف حججاً كافية لمنطقه الرافض مهادنة إسرائيل أو التوصل إلى سلام معها، وأن أميركا لا يعوَّل عليها، سواء أكانت إدارة دونالد ترمب أم إدارة جو بايدن، مع اتهام الأخيرة ببيع كلام معسول بينما في الواقع تعرقل صدور بيان رئاسي عن مجلس الأمن، وأرسلت مساعدات إلى إسرائيل، وتعتبر أن ما يجري هو حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها جراء الاعتداء عليها.
ومن أهم ما أفرزته هذه الجولة هو تأكيد وقوع منطقة المشرق العربي بيد المنظمات الخارجة عن الدولة، لا سيما تلك الموالية لإيران كـ«حزب الله» والحوثيين وجماعات «الحشد الشعبي» العراقية وحتى حركة «حماس»، وبات لديهم جميعاً أسلحة جديدة وأوراق جديدة بمقدورهم استعمالها في الداخل معززين مشروع إيران التوسعي القائم أساساً على استخدامها لتقويض الدولة وكيانها، وهو الحاصل اليوم في الدول التي يوجدون فيها. ويبقى الهدف المضمر لهؤلاء كما لطهران، ليس فلسطين والقدس، إنما تثبيت المواقع في أنظمة الداخل، بحيث أتت مشكلة حي الشيخ جراح وغزة لتثبّت هيمنتهم على صناعة القرار وقدرتهم على تطويع الخصوم.
في المقلب الإسرائيلي وعلى مدى 12 عاماً، كان الهم الأول لبنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي هو إبقاء الانقسام قائماً بين السلطة الفلسطينية الضعيفة و«حماس» القوية، ليكرر أمام الغرب أنه ليس لديه شريك للسلام، لا سيما عندما يكون الشريك المتوفر هو تنظيماً مدرجاً على لوائح الإرهاب في معظم دول العالم، فيظهر هكذا بمظهر «الوديع والمتواضع» والضحية التي تعاني مثله تماماً من التشدد الإسلامي العنيف.
تبقى الضحية الفعلية لما جرى ويجري وهي القضية الفلسطينية والفلسطينيون، لأن تجييرها لحركة «حماس» ومن وراءها ووضعها بيدهم هو بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة عليها. لا يمكن أن نصدق ما يجري تسويقه بعد هذه الجولة من أن قضية فلسطين أخذت زخماً جديداً وهي القابعة تحت رعاية حركة «حماس» و«الجهاد» المتهمتين دولياً بالإرهاب والتطرف والتشدد الديني، وفي ظل انتهاء صلاحية السلطة الوطنية الفلسطينية منذ زمن وغياب حركة «فتح» المنقسمة إلى ثلاثة أقسام مختلفة ومتباينة، مع ركون القضية الفلسطينية في قبضة إيران ووكلائها، باتت هي الخاسر الأكبر وطهران الرابح الأكبر.
ومن السذاجة أن نصدق أيضاً أن بمقدور «حماس» القضاء على إسرائيل أو بمقدور نتنياهو القضاء على الشعب الفلسطيني؛ فالتاريخ أثبت أن هذا الصراع لن يحل بواسطة القوة العسكرية وأن الدبلوماسية هي الطريق الوحيد لتسويته، لكن المعضلة أن الطرفين الممسكين به راهناً، نتنياهو و«حماس»، ليس من مصلحتهما التوصل إلى تسوية لاستفادة كل منهما من استمرار الوضع على ما هو عليه.
ومن الصعب تصديق أيضاً ما يروّج له من أن الخاسر في هذا الصراع هو معسكر السلام، أي الدول العربية المطبِّعة مع إسرائيل. في الواقع الخسارة وقعت، إنما هي خسارة مؤقتة؛ لأنه لا مستقبل للمنطقة ولاستقرارها سياسياً واقتصادياً وأمنياً إلا مع السلام، ولن يتحقق هذا السلام من دون سحب الورقة الفلسطينية من يد محور الممانعة وتحلي الفلسطينيين بواقعية من جهة، واقتناع إسرائيل وعتاة التطرف فيها من جهة أخرى بحقوق الفلسطينيين وحتمية التوصل إلى حل عادل.
ينبغي لحرب غزة 2021 أن تتحول محفزاً لدول معسكر السلام عوض أن تكون مصدر خشية أو خجل أو تردد من خطوة التطبيع، وعليها أن تكون أكثر جرأة في الهجوم والضغط، أولاً على الإسرائيليين كي لا يعود نتنياهو إلى الحكم مع سياسته الانتهازية والشعبوية القصيرة النظر، وليصل فريق مقتنع بعقم الحل العسكري وحقوق الشعب الفلسطيني. وثانياً المزيد من الضغوط على الأميركيين والأوروبيين لإعادة إحياء حل الدولتين والكف عن الدوران في حلقة وهم البعبع النووي الإيراني والتصدي لخطر الجمهورية الإسلامية الفعلي وهو استحواذها عبر وكلائها المحليين على الإقليم بأسره وتحول نظامها توءماً لإسرائيل – نتنياهو في ابتزازهم.
وهي أيضاً محفز لحلفاء واشنطن في المنطقة في مرحلة مفاوضات فيينا الإيرانية الأميركية، بحيث باتت حجتهم قوية للتأكيد مجدداً لواشنطن أن الهم ليس فقط أن تمتلك إيران سلاحاً نووياً، إنما ما يوازي ذلك خطورة هو تدخلها في دول الإقليم عبر تصدير ثورتها فكراً ونظاماً، بحيث استنسخت حرسها الثوري في كل من لبنان والعراق واليمن وربما سوريا، وخلقت منظمات خارجة عن الدولة باتت كالحرس تماماً ممسكة بالقرار ومتحكمة به. تسللت إيران إلى المنطقة من باب القضية الفلسطينية ومقاومة إسرائيل الشعبية، فكان وليدها الأول «حزب الله» اللبناني، لكن القناع المقاوم سقط عندما بدأ وكلاؤها ينتشرون كالفطر في الإقليم لينخرطوا في العمل السياسي، مبعدين سلاحهم عن إسرائيل ليستخدموه في الداخل للهيمنة على القرار السياسي بما يعزز طموحات طهران التوسعية. الخوف هو أن السلاح الذي ظهر في غزة موجود بيد الحزب في لبنان، إن لم نقل إن ما يملكه أكثر تطوراً، وهو اليوم يحصد في السياسة أكثر بكثير مما كان متاحاً له لو انخرط في المعركة الدائرة، مشرعاً مقولة الاحتفاظ بالسلاح لتحقيق توازن الرعب مع تل أبيب ليصبح البلد بالكامل رهينة بيده.
إسرائيل أيضاً أصبح بيدها حجة لتقول إن الهم ليس فقط العودة للاتفاق النووي للحيلولة دون تحول إيران إلى دولة نووية، إنما تحصينه بتأمين عدم امتلاكها صواريخ باليستية وتزويد حلفائها في المنطقة من المنظمات الخارجة عن الدولة بأسلحة متطورة. وهذا ليس فقط لأمنها إنما لأمن دول المنطقة؛ لأنه لا استقرار لأحد بدون استقرار الجميع.
هل تداعيات هذه الحرب ودروسها ستحرك برودة واشنطن القادرة وحدها على اجتراح معطيات جديدة، بعدما تبين أن اقتحام ميدان الحرب بات مقتصراً على حلفاء إيران من دون غيرهم؟
أخيراً، من حقنا على مصر أن تستعيد دورها التاريخي وأن تدفع باتجاه السلام وتحبط أي تلاعب بمصير غزة والقضية الفلسطينية ومعهما مصير المنطقة برمتها.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها