منى فياض

الأحد ٦ آذار ٢٠٢٢ - 09:57

المصدر: الحرة

غزو أوكرانيا كامتحان للديموقراطيات

تكثر التحليلات والتعليقات حول الحرب التي أعلنها الرئيس الروسي على أوكرانيا. البعض يتهم الغرب، وخصوصاً اميركا باستدراج بوتين للحرب لإضعافه وفتح مستنقع جديد على غرار ورطة أفغانستان حفظاً لمصالحها. وهناك من يرى العكس، أن خضوع الغرب لابتزاز بوتين يعني تكرار خطيئة تشامبرلين في عقده معاهدة ميونيخ مع هتلر بدل مواجهته باكراً.

نظرية المؤامرة وتبرئة المذنب أسلوب شعبي يتم اللجوء غليه عند كل منعطف. فعندما انتشرت جائحة كوفيد انطلاقاً من الصين، سارعت البعض لاتهام أميركا والغرب بتصنيع الفيروس وتوزيعه كمؤامرة إمبريالية تبغي الكسب والهيمنة على العقول، مع أنهم كانوا أول المتضررين.

أما منطق اليسار والممانعة المدافع عن حرب بوتين فيتخذ من الهجوم الأميركي على بغداد ذريعة لتبريرها. يعني إذا أخطأت أميركا واحتلت العراق وتسببت بكارثته، يحق لروسيا غزو أوكرانيا بعد تدميرها سوريا.

وهناك من يقارن هذا الغزو بهجوم هتلر عام 1938 على البلدان التشيكية. بداية قدّم بوتين نفسه كضحية لسياسة الناتو التوسعية، مع انه حلف دفاعي يمنعه ميثاقه من مهاجمة أحد ما لم يتعرض أحد أعضائه للهجوم أولاً. وقبيل غزوه أوكرانيا، أعاد اتهام سلطاتها بارتكاب “إبادة جماعية” ضد السكان الناطقين بالروسية في دونباس، مؤكدا ارادته بالقضاء على نازيتها ونزع سلاحها. استخدم “الخطاب المضلل” باستعمال كلمة “إبادة جماعية”، كأنه يستعيد صدى “الفظائع غير المسبوقة” التي تذرع بها هتلر لاحتلالاته في عام 1938. وعلى غرار هتلر وإيران في المنطقة العربية، استخدم وجود أقليات روسية كبيرة وجعلهم حصان طروادة للاختراق والغزو.

لم يسمح له بذلك سوى ضعف الديموقراطيات الغربية وتراخيها تجاهه.

تكمن مسؤولية الغرب عما يجري في أوكرانيا، في تقاعسه عن مواجهة عنف الأنظمة المستبدة، خصوصاً تغاضي أوباما “حامل نوبل للسلام”، عن اعتداءات إيران لجيرانها، وتراجعه عن خطوطه الحمراء في سوريا والتفرج على براميل بوتين المتفجرة تهدم سوريا على رؤوس السوريين. هذه هي نتيجة سياسة “السلام الخادع” لأوباما وعماء الغرب وتعامله مع الأطراف البعيدة عن المركز، ككم مهمل يكفي التعامل معه بتكتيكات آنية وليس باستراتيجيات واضحة ومبدئية تحترم ادعاءات وقيم الديموقراطية. وصلنا إلى حافة حرب كونية لتجاهلهم أن دول العالم في مركب واحد مترابط كالأوعية المتصلة.

لكن في كل هذا الجدل حول الحرب الروسية على أوكرانيا، يتم إهمال مسألتان: مسؤولية الرئيس الروسي الشخصية عن قراراته مهما كانت، وارتباطها بتاريخ ممارساته وتجاربه المخابراتية ومعتقداته وطبائعه، إضافة إلى وضعه النفسي الراهن الذي يوصف بالعزلة. يجد البعض الوضع شبيه بتجربة هتلر وشخصيته من نواحٍ عدة.

المسألة الثانية والأهم، إغفال إرادة الشعوب وحقها في تقرير المصير والتصرف والتغيير دون إكراه، أي الاستقلالية وامتلاك حرية الاختيار. كما حق الدول الوطنية الصغيرة بالوجود وبالحماية.

فالشعوب كبشر، بمعزل عن مصالح الدول والأنظمة، يحق لهم اختيار نمط حياة يفضلونها والعمل على تأمين مستوى معيشي لائق، وحريات شخصية وسياسية ومساواة. كما من حقهم رفض الالتحاق بأنظمة الاستبداد والإفقار والخضوع وفقدان الحريات.

أوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة اختار شعبها نظامه السياسي الديموقراطي وانتخب رئيسه وحكومته ويريد بمحض إرادته الالتحاق بالاتحاد الاوروبي وديموقراطياته. وهذا ما يعتبره بوتين نازية يجب بترها.

من يقرأ خطاب بوتين، الذي وصفه البعض بالهذياني، سيجد أن الرجل لا يريد أقل من إعادة كتابة التاريخ، من زمن القياصرة إلى ستالين مروراً بلينين. بوتين يريد تصحيح أخطاء لينين التاريخية. يلومه لتقديمه تنازلات للقوميين، وقبول نظام الدولة الكونفدرالية، المبنية على شعار حق الأمم في تقرير المصير حتى الانفصال. ويسأل معترضاً: “لماذا كان من الضروري إرضاء أية طموحات قومية متنامية بشكل غير محدود في ضواحي الإمبراطورية الروسية السابقة من عظام هيكلها”؟

بوتين يصحح التاريخ ويعيد الأمور إلى نصابها. سجلّه كحاكم لروسيا يحتاج إلى صفحات لتعداد ممارساته ضد المعارضين والإعلام وقمع الاحتجاجات وتسميم واغتيال المعارضين في الداخل والخارج. وراهناً يعتقل المتظاهرين ضد الحرب بالآلاف. وجميعها ممارسات يلصقها بدول الغرب والناتو ويجعل منها أهدافهم ضد بلاده.

استفزازات الغرب لروسيا ليست المسؤولة عن تحولها إلى الديكتاتورية ولا عن فشلها الاقتصادي.

وفيما حلف الناتو لم يعتد على أي دولة، بالمقابل استخدم “حلف وارسو” التدخلات العسكرية في المجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا لسحق الانتفاضات الشعبية ضد الهيمنة السوفياتية. وتدخلت روسيا، في عهد بوتين، عسكرياً في بيلاروسيا، وكازاخستان، وطاجيكستان، وليبيا، ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وسوريا. وفي 1999 قمع حركات الاحتجاج في الشيشان بوحشية، ثم في جورجيا في 2008 واجتاح القرم في 2014 وتدخل في سوريا في 2015 ودعم نيكولاس مادورو في فنزويلا. هذا عدا عن دعمه ومساندته إيران وأدوارها بوجه المجتمع الدولي برمته. أكثر من ربع قرن من الحروب والتدخلات المحمومة، واستخدام الفيتو في مجلس الأمن في كل مرة حاول فيها اتخاذ موقف متوازن. هذه جميعها لا تكفي كي يتحمل وحده مسؤولية عدوانه على أوكرانيا؟

يجد فوكوياما، أن بوتين قد يكون ارتكب خطأً مميتاً في غزوه لأوكرانيا، التي انخرطت في مقاومة مستميتة للدفاع عن نفسها. دعا رئيسها مباشرة كل من يمكنه حمل السلاح أن يتجند في وحدات “الدفاع الإقليمي”، وهي نوع من الحرس المدني الذي تشكل في الدولة في الأسابيع الأخيرة. وتبين ان بوسع المقاتلين الأوكرانيين أن يعرقلوا ويشوشوا حركة القوة الروسية الغازية. ولعل بوتين نسي، انه سبق لمقاتلي جيش فنلندا في الحرب العالمية الثانية أن نجحوا في صد الجيش الأحمر وطردوا جنود ستالين من بلادهم من خلال حرب عصابات أسعفهم فيها برد الشتاء. كما نسي أن حرب أفغانستان كانت أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي الذي يريد استرجاعه.
بانتظار ارتدادات الحرب والعقوبات على الوضع الداخلي في روسيا، يبدو أن بوتين نجح في توحيد الغرب وفي قلب سياسة ألمانيا لأول مرة بعد انتهاء الحرب الثانية. نحن أمام عالم قادم مختلف. على أمل حصول قفزة في وعي الدول العربية كي تبلور سياسة واضحة تؤمّن مصالح ومستقبل شعوب المنطقة وتختار الوقوف مع الديموقراطية وقيمها.

في الخلاصة، كشفت هذه الأزمة عن تحيز غربي عنصري في تغطية الأحداث. وبينت أن العرق والثقافة والدين لا تزال تشكل خلفية لسلوك البشر واستجاباتهم، وتفسر ربما المعايير المزدوجة في سياسات الغرب بتعامله مع دول الأطراف الأفقر أو غير الاوروبية، ما يقود إلى “الانتقاص من كرامتهم وحقهم بالعيش في كرامة”، لى ما كتب أتش إي هيلير من كارنيغي.

لكن عنصرية الغربيين لا تتفوق على عنصريتنا، فآخر مهازل بعض الأبواق الشعبوية واليسارية الممانعة، السخرية من زيلينسكي لأنه ممثل ويهودي وصهيوني ويحمل الجنسية الإسرائيلية!! انه تجسيد للشيطان نفسه!! ناهيك عن الاشارة إلى الأوكرانيات بتلميحات مسفّة. هذا في حين قد يكون لبنان من أوائل المتضررين من الاشتباك العالمي الحاصل زيادة في انحدار وضعنا المنهار.

لكن، وعلى ما أشار هراري، أوكرانيا التي أصبحت أمة ستعطينا دروساً في الشجاعة والصمود وفي ما تعنية المقاومة. علّنا نتعظ.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها