سام منسّى

الأثنين ٢١ آذار ٢٠٢٢ - 09:00

المصدر: الشرق الأوسط

لا شرق ولا غرب في وقف آلة الحرب

التقيت السفير الروسي السابق في بيروت ألكسندر زيسبكين في حلقة إذاعية، وسألته مستفسراً يومها عما هي مشكلة روسيا مع الغرب غداة سقوط الحاجز العقائدي معه وتحول موسكو إلى الرأسمالية، ولمَ الإصرار على مقولة الشرق والغرب؟ لم أتلقَّ إجابة واضحة شافية منه إلا تكرار قناعته بأن الغرب، وأصر مشدداً على الكلمة، يهدد روسيا ويسعى لإضعافها. أستذكر هذا الحوار مع السفير كون الأزمة الأوكرانية حرّكت مجدداً حدة التجاذب بين ما يسمى الشرق والغرب، وتظهر يوماً بعد يوم أن الحرب الدائرة هي أبعد من الأزمة بين موسكو وكييف.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى ما يطرحه أحد كبار خبراء التاريخ الروسي، ستيفن كوتكن بتعريفه الغرب بأنه «عبارة عن سلسلة من المؤسسات والقيم. الغرب ليس مكاناً جغرافياً. روسيا أوروبية، لكنها ليست غربية. اليابان دولة غربية وليست أوروبية. تعني كلمة (الغربية) سيادة القانون والديمقراطية وفصل السلطات والملكية الخاصة والأسواق المفتوحة واحترام الفرد والتنوع والتعددية في الرأي وجميع الحريات الأخرى التي نتمتع بها والتي نأخذها أحياناً كأمر مسلّم به. ننسى أحياناً من أين أتوا. ولكن هذا ما هو عليه الغرب». وينبغي أن نضيف إلى الدول التي ذكرها كوتكن كوريا الجنوبية وتايوان والهند وغيرها. ولا بد كذلك أن نتذكر أن أوكرانيا نفسها بالمفهوم المتداول، تدخل ضمن خانة الشرق كما عدد من الدول التي كانت بفلك الشرق السوفياتي وما لبثت أن التحقت بحلف الناتو هرباً من معاناتها منه.
ولطالما كرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه معيار الانتماء العرقي اللغوي أي السلافي الروسي والمذهبي المسيحي بقوله إن أوكرانيا وشعبها جزء من روسيا، ولعله اعتقد مخطئاً أن الأوكرانيين سوف يستقبلون جحافله بالورود بعد «تحرير» بلادهم من طغمة المتطرفين والمتعصبين والقوميين الذين وصفهم بالنازيين. لكن بعد ثلاثة أسابيع من المعارك، غضب الرئيس بوتين ظاهر في تصريحاته المنفعلة كان كبيراً كما كانت مفاجأته بحجم المقاومة في أوكرانيا وشراستها، مقاومة أسقطت حجة التحرير بالتفافها حول حكومتها المنتخبة ولا سيما بعد حجم الدمار الحاصل والخسائر المهولة وحصيلة القتلى وعدد النازحين الأوكرانيين المطلوب «تحريرهم».
وبمعزل عن التسميات والتوصيفات، يعيدنا هذا كله إلى صلب المشكلة بين روسيا والدول الغربية التي تشي بأنها عميقة ومعقدة لدرجة لم يعد مهماً ومن الأولويات التشخيص والسجال بين من يحمّل الغرب وحده وزر ما وصلت إليه الأمور، ومن يعتبر أن توسع «الناتو» كحلف دفاعي مكّن التعامل مع جنوح روسيا اليوم ضد دولة ذات سيادة، ولو لم تكن بولندا أو دول البلطيق في «الناتو» لوقعت في المأزق الذي تجد أوكرانيا نفسها فيه راهناً.
هذا النقاش والسجال يدور في هذه الآونة في الأوساط الفكرية والبحثية في الدول الغربية نفسها، إنما مهما كانت مسببات هذه الحرب يبقى أن السياسة الخارجية الروسية لطالما عانت من طموحات متصاعدة تجاوزت حدود الدولة، من بطرس الأكبر، إلى الإسكندر الأول ثم ستالين المدعوم من الغرب بانتصاره على هتلر واليوم مع بوتين ونزوعه الإمبراطوري.
هذه الميزة ترافقت دوماً مع إحساس بالاستثنائية مع التطلع إلى أن تكون روسيا أعظم قوة، بينما لم تكن قدراتها أو قوتها بقدر طموحاتها كحاملة حضارة وثقافة مميزة على كل الصعد ومنذ مئات السنين. وكلما حاولت موسكو ردم الهوة تعمّقت المشكلة، وربما سبب هذا الفشل هو تغول الأجهزة الأمنية وغياب الديمقراطية والحريات لا سيما في الحقبة السوفياتية.
السؤال الأهم اليوم هو هل تستطيع الدول الغربية والمحايدة نسبياً ذات الفاعلية المساعدة في اجتراح مخرج لبوتين لإنهاء هذه الحرب المروعة في القارة الأوروبية قبل أن تتفاقم ويلاتها أكثر؟
قرر الغرب، ولأسباب واضحة ومقنعة حتى، عدم خوض حرب مع روسيا وعدم فرض منطقة حظر طيران، واعتمد عقوبات اقتصادية أكثر شمولاً وقوة مما توقعه الناس في بداية النزاع. مع التحسب من إمكانية الالتفاف عليها وأن المستهدفين سيكونون قادرين على استيعابها. إنما تبقى العقوبات هي السلاح الأجدى لمن لا يرغب في خوض حرب مباشرة ومواجهة قوة نووية، وهو أقصى ما يمكن استعماله في هذا النزاع، إضافة إلى تزويد أوكرانيا الكثيف والغزير وغير المسبوق بالمساعدات المالية والعتاد العسكري، خاصة الدفاعي منه.
تبقى العقبة في تحديد أي أسلوب قادر على تحفيز بوتين للدخول في مفاوضات لحل الأزمة تشارك فيها شخصيات موثوقة منه وصديقة له مثل الرئيس الصيني شي جينبينغ. والعقبة أيضاً في التوقيت المناسب له قد يأتي بعد تحقيقه المزيد من المكتسبات على الأرض الأوكرانية والانهزام دولياً. ولا يستطيع بوتين إلا أن يأخذ بعين الاعتبار واقع قوة المقاومة الأوكرانية من جهة، ومن جهة أخرى تصميم الغرب وفي مقدمه الولايات المتحدة التي جددت زعامتها عليه وتلاشت معه مقولة زعمت انحلاله وانحداره، بل نهايته كما بشّر بعضهم. إذا صحت هذه الفرضية قد تكون فرصة لتلافي الأسوأ.
يبقى أن مخارج هذه الأزمة بعد الحدة والخطورة التي بلغتها لن تتيح للغرب السماح أو التهاون بتغيير الحدود والكيانات المعترف بها دولياً بالقوة. ويبدو أيضاً أن اللجوء إلى السلاح النووي مستبعد على الأرجح، رغم أن بوتين يمتلك القدرة ويمكنه الضغط على الزر. كذلك تبين أن النظام العالمي حصّن نفسه وأخذ جرعة مقوية عمادها عدد من الركائز الاستراتيجية الوازنة؛ الأولى هي التضامن بين ضفتي الأطلسي، والثانية التضامن الأوروبي وبروز «استقلالية أوروبية» لافتة كانت رافعة مهمة وفاعلة للولايات المتحدة، والثالثة، وهي مهمة بقدر الركيزتين السابقتين، هي الدعم والتضامن الشعبي المذهل في أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا واليابان مع أوكرانيا وضمور الأصوات المتعاطفة سابقاً مع بوتين، ما شكّل أداة ضغط رئيسة يصعب على صناع القرار تجاوزها في هذه البلاد. وكمثال على التضامن الشعبي على مستوى العالم، حجز أشخاص من 165 دولة أكثر من 430 ألف ليلة بغالبيته في منازل أوكرانية، بواسطة آلية برنامج إحدى المؤسسات المختصة بتأجير الشقق، مع عدم وجود نية لاستخدامها، بل من أجل التبرع بالمال لهؤلاء المضيفين الأوكرانيين، وترجمت هذه الحجوزات إلى 17 مليون دولار.
والحال هذه فالمخارج خارج التفاوض كلها كارثية وأفظعها هو تدمير أوكرانيا، وهي مهد عباقرة وشخصيات مميزة في الثقافة السلافية لأنه كلما شعر بوتين بالخسارة السياسية وعدم القدرة على الحسم العسكري بحسب توصيف الرئيس البولندي، يمكنه بما يتوفر لديه من أسلحة لم يستخدمها، مفاقمة عذاب الضحية الأولى وليست الأخيرة وهي أوكرانيا وهي الشقيقة المهدورة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها