ففي اليوم الأخير من السنة المنصرمة أعلنت الأمم المتحدة إغلاق المحكمة الخاصة بلبنان، والتي كانت مكلفة بالتحقيق في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري و22 آخرين، وذلك من دون أن تتوصل إلى تنفيذ العدالة والاقتصاص من المجرمين الذين أدانتهم المحكمة، لأن السلطات اللبنانية عجزت أو تلكأت أو تآمرت بما حال دون توقيف أي منهم.

وهذه السلطات ذاتها، وقبل أيام، بقيت صامتة ومشلولة، وراضية بكونها “شاهد ما شافش حاجة” حيال حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، “الفار من وجه العدالة”، والذي شارك في مأتم شقيقه، وفي وضح النهار وعلى مرأى من الجميع وعلى صفحات الصحف، بعدما كانت قد بررت عدم سوقه للقضاء بحجة تعذر إبلاغه بمذكرات التوقيف لأنه مجهول الإقامة ومتوارٍ عن الأنظار، خصوصاً أنّ، في حقه مذكّرتي توقيف دوليتين.

ولا عجب، فالحمايات السياسية والأمنية لا تقتصر على سلامة، أو على مرتكبي جرائم الاغتيال الذين أدانتهم أو لم تتوصل إليهم آليات القضاء المحلي والدولي، وإنما تشمل رؤساء ونوابا ووزراء ومسؤولين في مختلف إدارات الدولة، لا يحتاج تورطهم بجريمة تفجير مرفأ بيروت إلى أكثر من الأدلة المتوفرة بكتب رسمية.

لكنه العقم الذي يدمغ الحياة السياسية والأمنية والقضائية في لبنان، والذي تثبت تطوراته أنه غير قابل للعلاج والإصلاح، لأنه مرتبط باللعب على أوتار غرائزية اللبنانيين الحاضرين لتجاهل واقعهم المذري والمهين والتغاضي عن الاهتمام بمستقبلهم ومستقبل أولادهم، بغية تكريس الانقسام الطائفي والتحريضي في كل كبيرة وصغيرة، واليوم ها هم يعززون انقساماتهم على خلفية “حرب غزة” وتداعياتها.

فالمسافة الفاصلة بين رفض جر لبنان إلى حرب مفتوحة ومدمرة، تحت شعار “مساندة غزة وإشغال العدو الإسرائيلي”، وبين تأجيج الصراعات الطائفية الرافضة للآخر، تلاشت بشكل كبير، وطغت عليها اعتبارات وتصنيفات تنبض بخطاب الكراهية، بحيث بات الرافضون خونة موصوفين.

وأخر “الخائنين” وفق وجهة النظر هذه هو البطريرك الماروني بشارة الراعي، لأنه أعلن رفضه امتداد الحرب إلى جنوب لبنان، وطالب بإيقافها وحماية اللبنانيّين وبيوتهم وأرزاقهم، وإزالة أي منصّة صواريخ مزروعة بين المنازل في بلدات الجنوب التي تستوجب ردًّا إسرائيليًّا مدمّرًا، واحترام قرار مجلس الأمن 1701 بكلّ بنوده لخير لبنان. ولم تشفع له إدانته “حرب إسرائيل المتعجرفة والمتباهية بأسلحتها المتطوّرة الموهوبة لها، على شعب غزّة بأطفالها ونسائها ومسنّيها في بيوتهم الآمنة والمستشفيات والمساجد والكنائس”.

في المقابل، سارع بعض المسيحيين إلى اتهام “حزب الله” بتعمد إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل من القرى المسيحية في الجنوب اللبناني تحديدا، وعن سابق تصور وتصميم لتهجير أهلها ومصادرة أرضهم وممتلكاتهم.

اللعبة وسخة، وتحديدا لأن لبنان بلا بوصلة، ما دام الدستور معلقاً، وما دام الزعماء السياسيون لا يناضلون إلا وِفق مُتطلّبات مصالحهم الضيقة، حتى لو استدعى ذلك نسف ما تبقى من وفاق وطني. إذ تكفي المطالبة بتطبيق القرارات الدولية ونزع أي سلاح خارج الدولة، أو بالالتزام بالدستور أو بحياد لبنان لحمايته في خضم التطورات العسكرية التي تعصف بالمنطقة، ليتكشف أن استخدام خطاب الكراهية يُشكّل استراتيجية تُطبّق بنفس طويل وعلى المدى الطويل.

وكأن المطلوب كان ولا يزال إرساء صيغة خبيثة تستدعي فتح جبهات تبرعم هنا وهناك تحت راية الطائفة المظلومة أو الطائفة الخائفة، والتي تتغذى من منابع الحقد المذهبي والتنابُذ بين مُسلمين ومسيحيين، برعاية أحزاب لا تضمن استمراريتها إلا بشدّ العصب الطائفي.