سام منسّى

الأثنين ٦ كانون الثاني ٢٠٢٠ - 11:43

المصدر: الشرق الأوسط

محاذير شيطنة السياسة ودروس «انتفاضة 14 آذار»

مع بداية السنة الجديدة ودخول الانتفاضة الشعبية في لبنان مشارف شهرها الثالث، يبدو أنها تواجه من جهة انسداداً على صعيد تجاوب الحكم معها وتجاهله مطالبها، ومن جهة أخرى الارتدادات المحتملة لاغتيال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، وأبو مهدي المهندس، نائب قائد «الحشد الشعبي» في العراق، لا سيما لجهة دور «حزب الله» وهو أهم ذراع لإيران في المنطقة.
وفي ظل ما هو رائج اليوم من شيطنة للسياسة، يفرض تدافع الأحداث هذا العودة إلى الحدث التأسيسي للمسار الحالي، أي «انتفاضة 14 آذار»، علّنا نستخرج بعض الدروس خدمةً لانتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول).
اندلعت الانتفاضة على وقع الأزمة الاقتصادية والمالية التي دخلت البلاد أتونها، وشكلّ الهم المعيشي الرابط الرئيس بين مختلف مكوناتها. ومع ذلك، تبقى أسبابها الكامنة سياسية بالدرجة الأولى، إنْ لجهة سوء إدارة البلاد ونظام المحاصصة الذي انسحب على المناصب السياسية كما على اقتسام المغانم الاقتصادية والمالية، أو لجهة عدم الإفراج عن المساعدات الدولية الموعودة لإنقاذ البلاد. فإذا كان السبب العلني وراء عدم تدفق هذه المساعدات من مصادرها الغربية أو العربية هو ضرورة أن تسبق هذه الخطوة إجراءات إصلاحية تبدأ بمكافحة الفساد وسوء الإدارة وصولاً إلى تحقيق الحوكمة الرشيدة، يبقى السبب الحقيقي سياسياً بامتياز ويتمحور بشكل رئيس حول الاتجاه الذي سلكه ويسلكه الحكم في لبنان بفعل هيمنة «حزب الله» وسطوته على صناعة القرار في البلاد.
ووسط وصول الأزمة بين طهران وواشنطن إلى ذروتها مع اغتيال سليماني في بغداد، ومع حبس العالم أنفاسه بانتظار الرد الإيراني، يستمر القيّمون على الحكم في لبنان بالتسلي بعملية تأليف حكومة يريدون إقناع اللبنانيين والعالم بأنها أولاً الحل السحري للأزمة المستفحلة الذي كان مفقوداً ووجدناه، وأنها ثانياً حكومة مستقلين فيما يدرك الجميع مَن وراءها. لن يتغير الموقف الدولي من لبنان مع أي حكومة يبقى لـ«حزب الله» اليد الطولى فيها، فكيف للبنان والحال هذه الخروج من أزمته تلك وسط الأوضاع المستجدة؟ وما الدور الذي تستطيع الانتفاضة بخاصة لعبه كما القوى السياسية الأخرى؟
لعله من المفيد أولاً العودة إلى الماضي القريب والإفادة من دروسه، وثانياً تصويب مسار انتفاضة 17 أكتوبر وبعض المفاهيم التي تتبناها. نعني بالماضي القريب تجربة حركة «14 آذار» 2005 المفصلية في الحياة السياسية اللبنانية، لا سيما لجهة وضوح رؤيتها السياسية ووضعها الإصبع على الجرح، وهو وقوع البلاد تحت احتلال سوري وصل إلى ذروة سطوته باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. فكانت الانتفاضة الشعبية المليونية التي تمكنت جراء تأطيرها السياسي الداخلي وظروف دولية وإقليمية من تحقيق خروج الجيش السوري من لبنان بعد نحو ثلاثة عقود على وجوده فيه. لكن على الرغم من هذا الإنجاز الكبير، لم تتمكن الطبقة السياسية من تحقيق مكاسب تنقل البلاد إلى مرحلة بناء الدولة لأنها تاهت مرة جديدة في غياهب المصالح الطائفية والحزبية الضيقة، فتغلبت الانتماءات الفرعية مرة جديدة على الانتماء الوطني الجامع. في الواقع، مر إجهاض حركة «14 آذار» بثلاث محطات رئيسة يجوز وصفها بمجازر ارتُكبت في حق حركة شكّلت فرصة تاريخية قد لا تعوَّض ولا تمرّ إلا نادراً في حياة الشعوب.
المحطة الأولى هي عمليات الاغتيال المبرمج لقيادات هذا الحراك ورموزه. والمحطة الثانية هي الأخطاء المميتة التي وقع بها المكون المسيحي في البلاد، بدءاً من رفضه «المس» برئاسة الجمهورية آنذاك ورفض إسقاط الرئيس إميل لحود الممددة ولايته، وصولاً إلى الانتحار السياسي الذي نفذه التيار الوطني الحر عبر ورقة التفاهم التي وقّعها مع «حزب الله»، والمحطة الثالثة هي التصفية الذاتية التي قامت بها هذه الحركة عبر مجموعة التسويات التي عقدتها مع ممثلي محور الممانعة المحليين. بدأت هذه التسويات باقتراح الوزير سليمان فرنجية رئيساً، ثم القبول بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ثم الرضا غير المبرر بقانون انتخاب مفصّل على قياس «حزب الله» وحلفائه جاء بهم كأكثرية في المجلس النيابي، وبعدها القبول بالتشكيلة الحكومية الأخيرة التي جاءت لتُحكم قبضة «حزب الله» على المؤسسات الدستورية الثلاث: رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي والسلطة التنفيذية. المشكلة الكبرى هي أن هذه التسويات لم تكن تسويات بمعنى الكلمة أي تسويات تراعي مصالح طرفين، إنما جاءت على شكل وضع «العصفور في القفص» وفرض إقامة جبرية على بقايا «14 آذار» عبر إشراكها الصوري في الحكم سعياً وراء غطاء يقي «حزب الله» الضربات الإقليمية والدولية. هذا الأمر لا ينفي وجود نوع آخر من المحاصصة الاقتصادية – المالية أفاد عبرها جل من في السلطة من مواقعهم، فوصل حجم الفساد والتعدي على المال العام إلى مستوى فاضح لم يسبق له مثيل.
الجامع بين هذه المحطات الثلاث هو الرضوخ للواقع وعدم الاعتراف بالعطب الأساس الذي يضرب البلاد، وهو ازدواجية السلطة عبر سيطرة «حزب الله» على صناعة القرار وما يستتبع ذلك من تداعيات مدمرة على الاقتصاد والاجتماع والأمن.
أما الانتفاضة الشعبية الراهنة، فهي دون أدنى شك لحظة تاريخية أخرى علينا الإفادة منها في سعينا ليس للخروج من الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الضاغطة فحسب، بل لاستعادة الدولة أولاً وإعادة بنائها ثانياً. ولا بد من الاعتراف بأن مطالب الانتفاضة كافة من مكافحة الفساد إلى استعادة الأموال المنهوبة إلى تشكيل حكومة اختصاصيين إلى انتخابات مبكرة، هي جميعها مطالب محقة ومشروعة، إنما تحقيقها يستدعي وجود دولة ذات سيادة والدولة مغيبة بفعل اختطاف قرارها. إن شعار «كلن يعني كلن» هو شعار له رنين جذاب، إنما يوقع الانتفاضة في خطأ جسيم وهو شيطنة السياسة والساسة واعتبار أن كل من خارجها غير صالح وينبغي أن تدخل في عداء معه. لن تتمكن الانتفاضة من ترجمة مطالبها إلى واقع إلا عبر الاعتراف أولاً بأن سبب مشكلات لبنان هو غياب الدولة وليس فقط الحكومة، وثانياً عبر إطار سياسي يسمح بإعادة التوازن إلى الحياة السياسية ويكون على شكل جبهة سياسية متماسكة تواكب الانتفاضة دون أن تنخرط في صفوفها، مؤلفة من قيادات وقوى لا يجوز إلغاؤها دفعة واحدة واعتبارها فاسدة لمجرد أنها شاركت في الحكم. صحيح أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، إنما الانتفاضة بحاجة إلى مثل هذه الجبهة للحد من عملية القضم والانقلاب الجارية، جبهة تشكل أداة ضغط وتتوجه إلى المجتمع الدولي والمجتمع العربي لتعلن أن في لبنان قوة وازنة لها رأي مختلف ولديها القوة والقدرة على منع محور الممانعة من الاستئثار بصناعة القرار السياسي في البلد.
إن المؤشرات الواردة وما قد يتبعها من الإقليم تدفع باتجاه العمل نحو إعادة التوازن إلى الحياة السياسية عكس ما تشي به مماحكات تشكيل الحكومة الجديدة. المهم السير نحو استعادة دولة كاملة غير منقوصة لا نصف دولة، وبالتالي أن تحاذر الانتفاضة من مغبات شيطنة السياسة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها