علي شندب

الخميس ٢٧ أيار ٢٠٢١ - 18:44

المصدر: العربيّة

مصر وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا

إغلاق قنوات الإخوان في تركيا، وبالحد الأدنى ضبط خطابها الإعلامي والسياسي. بالإضافة إلى تقييد حركة التمويلات والتحويلات المالية للإخوان المقيمين في تركيا، باتوا من الأنباء بل من السياسات المتواترة التي تنتهجها الحكومة التركية في سياق سعيها الحثيث لتطبيع علاقاتها مع مصر التي سلّمت الوفد الأمني الدبلوماسي التركي الذي زار القاهرة بتاريخ 5/5/2021 رزمة الشروط والطلبات المصرية التي تفتح الطريق أمام تطبيع العلاقات مع تركيا، بعد ثمانية أعوام من القطيعة والتوترات البينية.

وتتضمن الطلبات والشروط المصرية تسليم تركيا لمصر بعض رموز الإخوان المقيمين في أراضيها ممن تصنفهم القاهرة إرهابيين.

وبعد زيارة الوفد التركي إلى القاهرة بخمسة أيام، سُجلت زيارة لافتة لوزير الخارجية التركي جاوييش اوغلو إلى الرياض حيث تركزت محادثاته مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان على رأب الصدع في العلاقات المتوترة وتحسينها في سياق خطة تركيا لردم الفجوة وتطبيع علاقاتها مع محيطها العربي وخاصة مصر والسعودية.

وإلى مهاتفة الرئيس التركي للملك سلمان، فقد مهدت الرئاسة التركية أيضا لزيارة اوغلو بإعلان المتحدث باسمها ابراهيم كالين عن “احترام بلاده لحكم المحكمة السعودية بمقتل جمال خاشقجي” الذي سبق لتركيا ورئيسها اردوغان أن نفخوا بملفه بأقصى قوتهم لأهداف تتخذ من مقتله منصة لمحاولة هزّ صورة ونظام المملكة، وهو الهدف المتماهي مع أهداف ايران وأذرعها.

أزمات تركيا الاقتصادية وعزلتها السياسية خصوصا في محيطها العربي فضلا عن الاوروبي، هي تلك التي دفعتها للانعطاف باتجاه مصر والسعودية، بوصفهما الدولتين العربيتين المحورتين في المنطقة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وتتعامل كل من السعودية ومصر مع الانعطافة التركية بحذر مشروع. فوقائع السنوات الأخيرة أثبتت أن الأتراك كما الإيرانيون يفعلون بانتهازية كاملة كل ما تقتضيه مصلحة المصلحة العليا لبلادهم، بغض النظر عمّا اذا كان الثمن الذي سيدفعوه هو التضحية بأقرانهم الإخوان وغيرهم من حركات الاسلام السياسي.

لكن الشروط السوبراستراتيجية التي وعد الجانب التركي بدراستها وتقديم الردود بشأنها للجانب المصري، هي تلك المتعلقة بخروج القوات التركية وميليشيات المرتزقة التابعة لها من ليبيا التي تعتبرها القاهرة امتدادا حيويا واستراتيجيا لها، وذلك بحكم علاقات الجوار الجغرافي والديمغرافي فضلا عن التاريخ المشترك، وقد أتى إعلان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مدينتي سرت والجفرة خطا أحمر للأمن القومي العربي والمصري تعبيرا عن عمق هذه العلاقات وترابطها الوثيق.

إن الخط الأحمر الذي أوقف توغل أساطيل الاردوغان باتجاه شرق وجنوب ليبيا، هو نفسه الخط الذي ولدت من رحمه المبادرات بمساراتها العسكرية والدستورية والسياسية. ومن “ملتقى الحوار السياسي الليبي” الذي ابتكرته مبعوثة الأمم المتحدة السابقة ستيفاني وليامز، استُولِد المجلس الرئاسي الجديد برئاسة محمد المنفي (من مدينة طبرق شرق ليبيا) ورئيس الحكومة عبدالحميد دبيبة (من مدينة مصراتة غرب ليبيا). وبعد مخاض تشكلت الحكومة التي حازت على ثقة البرلمان الليبي بخلاف المجلس الرئاسي السابق ورئيس حكومته فايز السراج المستولدين من رحم مؤتمر الصخيرات في المغرب.

لكن الخط الأحمر الذي منع تركيا من التوغل العسكري، لم يمنعها من محاولة استثمار نتائج غزوتها الليبية سياسيا. فتركيا تعتبر أن قواتها دخلت ليبيا بطلب من الحكومة الليبية السابقة، وأن اتفاقيات أمنية وعسكرية موقعة مع فايز السراج تنظم هذا التدخل وترعاه. لكن تركيا وغيرها يعلمون أن حكومة السراج هي غير شرعية أقله بنظر نصف الليبيين فضلا عن البرلمان الليبي الذي لم تعرض عليه الاتفاقيات مع تركيا للمصادقة عليها، كما فعل البرلمان التركي.

ورغم وقف اطلاق النار، يحتدم السجال في ليبيا حول القوات الأجنبية وتصنيف المرتزقة وتحديد هويتهم وجنسياتهم فضلا عن انتماءاتهم السياسية والدينوغرافية. وقد أحدث السجال حول تعريف وتحديد المرتزقة انقساما وتباينا بين مكونات السلطة الليبية الوليدة.

ففيما يعتبر ممثلو بنغازي والمنطقة الشرقية في السلطة الجديدة، أن المرتزقة هم اولئك السوريون الذين جلبتهم تركيا مع قواتها إلى ليبيا وباتوا أشبه ببندقية للإيجار. ويقود هذا الموقف ويعبر عنه بوضوح وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش التي جاهرت بهذا الموقف للمرة الأولى خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيرها التركي مولود جاوويش أوغلو حيث شدّدت على خروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا. الأمر الذي دفع أوغلو إلى التلطي خلف الاتفاقيتين الأمنية العسكرية والبحرية والتذرع بهما.

أما المرتزقة بتعريف القوى الميليشاوية المتنفذة في غرب ليبيا وتحديدا في مصراتة بوصفها المدينة المهيمنة على كامل غرب ليبيا، فهم جماعة “فاغنر” الروسية، وآخرين من تشاد واقليم درافور السوداني.

وبغض النظر عن حوارات اللجنة العسكرية في مدينة سرت، وتوصياتها، فإن ثمة انفصاما حقيقيا وازدواجية واضحة في القرار الأمني والعسكري ومكوناته وهيكلياته. ففي الشرق تتكون الأجهزة الأمنية والجيش من عسكريين محترفين. أما في الغرب فالأجهزة الأمنية والعسكرية فمكوّنة من ميليشياويين محترفين. الأمر الذي أنتج ثنائية أمنية وعسكرية متضادة الأهداف والسياقات والمنطلقات، ومتشابهة لحد التطابق مع تلك الثنائية المكونة من الحشد والجيش في العراق.

وتشكل الثنائية الأمنية والعسكرية، مأزقا موازيا لمأزق المرتزقة في ليبيا. ففيما ينحصر السلاح شرق ليبيا بالجيش الليبي. تبرز الميليشيات المهيمنة على أجهزة الدولة الليبية المستولدة بعد عدوان الناتو عام 2011 وفقا لقرارات آخرها ما رسمته حكومة فايز السراج التي استحدثت جهازاً أمنياً جديداً باسم “جهاز حفظ الاستقرار” وأسندت رئاسته للقيادي الميليشياوي غنيوة الككلي. إنه القرار الذي يعبر بوضوح عن إمساك الميليشيات المتطرفة بعنق وعصب الأجهزة الأمنية الرسمية التي باتت تستمد قوتها ليس من نفوذها الميليشياوي فحسب، بل من القوات التركية والمرتزقة الداعمة لها.

ولعلّ مشهد المفرزة الميليشياوية السبّاقة التي حضرت بطائرة من طرابلس إلى بنغازي بهدف تأمين زيارة رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة الشهر الماضي، وطريقة تصرف الأجهزة الأمنية في مطار بنغازي معها، وإجبارها على الدوس على العلم التركي قبل اعادتها من حيث أتت، يؤشر على ما تقدم أعلاه.

لكن الموقف الأكثر نفورا هو الهجوم الذي نفذته ميليشيا ثوار طرابلس لفندق كورونتيا بوصفه المقر المؤقت للمجلس الرئاسي، والذي استهدف محاولة النيل الجسدي من وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش على خلفية تصريحاتها القوية والمتكررة بضرورة خروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا.
إن هذه المشهدية تبرز بشكل لا لبس فيه، أن تركيا والميليشيات الموالية لها ليسوا بصدد أن يخسروا في السياسة ما ربحوه في الميدان. كما تؤكد هذه المشهدية أن الكلمة والقدم العليا في السلطة الجديدة غربي ليبيا هي لتركيا وتحالفها مع الإخوان والميليشيات والمرتزقة.

لكن ما الذي تفعله تركيا وتحالفها الإخواني والقومي لتثبيت معادلاتهم الجديدة في ليبيا؟

ممّا لا شك فيه أن رعاة التسوية الليبية الدوليين والإقليميين ومنهم تركيا، يدركون أن استتباب الوضع في ليبيا واستقراره يمرّ حتما من خلال خروج المرتزقة والقوات الأجنبية وحلّ الميليشيات وتسليم أو نزع أسلحتها، وإلا بقيت ليبيا عبارة عن جزر ومربعات وزواريب أمنية. وممّا لاشك فيه أيضا أن تحالف تركيا الإقليمي والمحلي على قناعة عميقة بهذه التحولات التي ستفرض نفسها على المشهد الليبي، لذا يعمل فرقاء هذا التحالف على محورين:

الأول: تعزيز نفوذهم في ليبيا اقتصاديا وسياسيا عبر الاتفاقيات المستعادة أو المستجدة كالزيارات الرسمية المتبادلة بين تركيا وليبيا والاتفاقيات الجديدة التي وقعها الدبيبة مع أردوغان مؤخرا. وفي هذا السياق تبرز زيارة رئيس الوزراء التونسي هشام المشيشي المدعوم من رئيس البرلمان وحركة النهضة راشد الغنوشي، إلى طرابلس حيث وقع مع نظيره الليبي اتفاقية متعدّدة البنود، تتضمن تفعيل ومراجعة الاتفاقيات السابقة وتنظيم العمالة وتفعيل النشاط الاقتصادي، وأيضا الإفراج عن الأموال الليبية المجمّدة.

كما برز في السياق نفسه، زيارة وزير الخارجية القطري محمد عبدالرحمن آل ثاني، الذي عبّر خلال مؤتمر صحفي مع نظيرته الليبية نجلاء المنقوش “عن دعم بلاده للسلطة السياسية الجديدة في ليبيا، داعيا إلى منع التدخلات الأجنبية في شؤونها”. في حين يبدو أن المنقوش التقطت شفرة التحالف التركي وأبعاد هذه الزيارة، فأشارت إلى “موقف قطر ودورها في المصالحة الخليجية، وتقارب الدوحة الأخير مع القاهرة”، وهنا مربط الفرس الذي تقدم ذكره أعلاه.

الثاني: إن تحالف تركيا قطر الإخوان ولتثبيت نفوذهم السياسي والامني والاقتصادي في ليبيا، وفي سياق التحولات التي ستفرض حل الميليشيات وخروج المرتزقة والقوات الاجنبية، يرجح أنهم وضعوا خطة برنامجية للانتخابات المقبلة التي ستجري وفق مقررات التسوية السياسية نهاية العام الحالي. انها التحولات التي لأجلها استبدل حزب العدالة والبناء الذراع السياسية للإخوان في ليبيا تسميته او غيّر قناعه ليصبح باسم جمعية “الاحياء والتجديد”، وقد بيّنت الوقائع أن سبب التغيير لضرورات انتخابية وليس نتاج مراجعات فكرية أو فقهية.

مما لاشك فيه أن انعطافة تركيا وجنوحها نحو تطبيع واستعادة علاقاتها مع مصر والدول الخليجية، كان من مفاعيل قمة العلا في السعودية بداية العام الحالي. لكن تأكيد تركيا لحسن نواياها ومواقفها الجديدة وسعيها للمصالحة مع الدول العربية يكمن في استجابتها الناجزة لمطالب ليبيا وشروط مصر في سحب قواتها من ليبيا، وهذا ما ستكشفه تطورات الأسابيع المقبلة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها