المصدر: المدن
“مطرقة منتصف الليل”.. قنبلة حفرت في قلب إيران وغيرت المعادلة
فجر 22 يونيو/حزيران 2025، حلّقت قاذفات الشبح الأميركية B-2 في سماء لا يعرفها الرادار، حاملة سلاحاً استثنائياً أُعدّ على مدار 15 عاماً من التخطيط والتطوير. الهدف: منشأة فوردو النووية الإيرانية المدفونة تحت جبال قُم. العملية التي أُطلق عليها رسمياً اسم “مطرقة منتصف الليل”، استخدمت فيها قنابل GBU-57/B Massive Ordnance Penetrator، وهي أضخم قنابل اختراق الأعماق غير النووية في الترسانة الأميركية، في استعراض نادر للقوة والتكنولوجيا والاستخبارات.
لم تكن الضربة مجرد ردع أو رسالة. بحسب البنتاغون، كانت تتويجاً لسنوات من العمل السري، ومقدمة لحقبة جديدة في الحروب الجوية التي تستهدف أعماق الأرض.
القنبلة التي حلم بها الضباط
في عام 2009، وفي أحد المراكز السرية التابعة لوكالة الحد من التهديدات الدفاعية (DTRA)، وهي هيئة تُعنى بمكافحة أسلحة الدمار الشامل وتتبع لوزارة الدفاع الأميركية، تم استدعاء ضابط استخبارات إلى غرفة مظلمة عُرضت عليه فيها صور عالية السرية لموقع ضخم يُبنى داخل جبال إيران. كانت بداية الاكتشاف: منشأة فوردو النووية.
بحسب ما رواه رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال دان كين، في مؤتمر صحافي بعد الضربة بأربعة أيام، فقد كُلّف هذا الضابط وزميل له بمراقبة الموقع، وتحليل أدق تفاصيله. “لقد عاشا من أجل هذا الهدف”، قال كين، “راقبا الجيولوجيا، حركة الحفر، المواد التي تدخل وتخرج، نظام التهوية، فتحات العادم، الأنظمة الكهربائية، وكل ما يتعلق بالمنشأة. حتى عندما ينامان، كانا يحلمان بفوردو”.
مع مرور الوقت، أدرك الفريق الاستخباراتي الأميركي أن إيران بصدد بناء منشأة غير قابلة للاختراق، وأن واشنطن لا تملك حتى تلك اللحظة سلاحاً يمكنه تدمير هذا الحصن الجبلي. هكذا بدأ سباق تطوير القنبلة الخارقة: GBU-57/B.
GBU-57/B.. العملاق الصامت
تزن القنبلة الواحدة نحو 14 ألف كيلوغرام، ولا يمكن إطلاقها إلا من طائرة B-2 بسبب وزنها وحجمها. تتكوّن من فولاذ كثيف ورأس متفجر خارق، وتُزوّد بصمامات استشعار ذكية مصمّمة لتحديد الفراغات والطوابق داخل المنشآت المحصّنة، ما يسمح بتفجيرها في النقطة الأكثر حساسية داخل الهدف.
في العملية التي جرت الشهر الماضي ضد فوردو، استخدمت الولايات المتحدة 12 قنبلة من هذا النوع ضد المنشأة، بالإضافة إلى قنبلتين موجهتين نحو موقع نووي آخر في نطنز، بينما أُطلقت صواريخ “توماهوك” من غواصة أميركية لضرب أهداف سطحية في أصفهان.
يقول كين إن القنابل الـ12 المخصصة لفوردو كانت مبرمجة بدقة. “لكل قنبلة زاوية دخول مختلفة، وتوقيت انفجار خاص، واتجاه نهائي”، موضحاً أن بعض القنابل كانت مزودة بصمامات تختلف في حساسيتها وقدرتها على الاستشعار، بهدف إحداث تأثيرات متنوعة داخل البنية التحتية المعقدة للموقع.
محاولة إيرانية فاشلة
عشية الضربة، كانت إيران قد بدأت بتغطية فتحات التهوية في فوردو بطبقات من الخرسانة المسلحة، في محاولة لمنع تسلل الذخائر الذكية. لكن الأميركيين كانوا على دراية مسبقة بسماكة هذه الأغطية، وأدخلوا هذه المعطيات في حساباتهم البرمجية. لم تكن مجرد قنبلة تُلقى من السماء، بل مشروع هندسي متكامل، حيث تلتقي الفيزياء بالذكاء الاصطناعي.
“لقد خططنا لضرب المنشأة كأننا نبنيها من الداخل”، يقول كين. “أردنا أن نصل إلى قلبها دون أن يُدرك أحد كيف وصلنا”.
من يُقيّم العملية؟
رغم أن القوات الجوية الأميركية نفّذت الهجوم، فإن تقييم الأضرار لا يقع ضمن مسؤولياتها. “نحن لا نقيم أنفسنا”، يقول كين. بدلاً من ذلك، تتولى وكالات استخباراتية خاصة، أبرزها وكالة DTRA، هذه المهمة. تمتلك هذه الوكالة خبرة متراكمة في تحليل آثار الضربات على أهداف مدفونة، وهي نفسها من راقبت منشأة فوردو لسنوات.
حتى الآن، لا تزال التحليلات جارية، والتقارير الاستخباراتية لم تُعلَن بالكامل. لكن المؤكد، بحسب المصادر العسكرية، أن الضربة شكّلت نقطة تحول في قدرة الولايات المتحدة على ضرب أهداف محصنة دون اللجوء إلى السلاح النووي.
الجيل القادم من القنابل
ورغم نجاح GBU-57/B في تدمير أهدافها، فإن الجيش الأميركي لا يعتبرها نهاية المطاف. تسعى القوات الجوية حالياً إلى تطوير نسخة جديدة من هذه القنبلة، تكون أخف وزناً (لا تتجاوز 10 آلاف كيلوغرام)، وأكثر فاعلية، ويمكن تحميلها على الطائرة المستقبلية B-21.
المواصفات الجديدة تشمل دمج تقنية متقدمة لتحديد الطوابق داخل البنى التحتية المعقدة، وتحقيق اختراقات أكثر عمقاً بمواد أخف، بالإضافة إلى قدرات تخفٍ أعلى لتفادي الدفاعات الجوية الحديثة.
ما بعد إيران.. رسائل إلى بيونغ يانغ وبكين وموسكو
برأي مراقبين عسكريين، فإن رسالة الضربة الأميركية تتجاوز حدود إيران بكثير. فبيونغ يانغ وسّعت منشآتها تحت الأرض في السنوات الأخيرة، تحسباً لأي هجوم أميركي. وكذلك تفعل بكين وموسكو، إذ تملك كل منهما تاريخاً طويلاً في بناء قواعد جبلية للطائرات والغواصات ومراكز القيادة.
إن امتلاك الولايات المتحدة لقنبلة غير نووية قادرة على تدمير مواقع مدفونة في أعماق الجبال يغير من معادلة الردع العالمية. فبدلاً من الاعتماد على الأسلحة النووية لكسر التحصينات، بات بإمكان واشنطن الآن تنفيذ ضربات دقيقة مدمّرة دون تجاوز “الخط الأحمر النووي”.
عمق استراتيجي جديد
ثمة مؤشرات إلى أن الضربة الأميركية على فوردو لن تكون مجرد صفحة عابرة في الحرب الباردة الجديدة. فمن المتوقع، بحسب خبراء، أن تؤدي إلى تسريع التوجه العالمي نحو تعميق المنشآت الحيوية تحت الأرض، وبناء تحصينات أكثر تعقيداً، خاصة في دول مثل الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
وفي المقابل، ستسابق الولايات المتحدة الزمن لتطوير قنابل أعماق أصغر وأذكى وأكثر دقة، في إطار سباق تكنولوجي جديد، حيث تختلط الجغرافيا بالصواريخ، والجيولوجيا بالبرمجيات.
ليست فقط قنبلة.. بل اختبار لمستقبل الحرب
الضربة على فوردو لم تكن فقط استعراضاً للقدرة، بل اختباراً شاملاً لمنظومة القتال الأميركية ضد منشآت محصنة على غرار ما قد تواجهه واشنطن في نزاع محتمل مع قوة عظمى.
وفي زمن يتسارع فيه تطوير الدفاعات الجوية وتتعقد فيه التحالفات، تبدو GBU-57/B كأنها إعلان صامت عن شكل الحرب المقبلة: صامتة، دقيقة، تخترق الأرض قبل أن تنفجر.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها