سام منسّى

الأثنين ٥ كانون الأول ٢٠٢٢ - 08:20

المصدر: الشرق الأوسط

معوّقات تصدير أزمة النظام الإيراني

تتوالى التكهنات بأن الاحتجاجات في إيران المستمرة منذ أكثر من شهرين إثر مقتل الشابة مهسا أميني بعد اعتقالها «لارتدائها الحجاب بطريقة غير لائقة»، قد تدفع النظام على عادته المزمنة إلى تصدير أزمته الداخلية للخارج بعد تحميل الغرب وأميركا وإسرائيل أسباب كل ما يواجه في الداخل. هذا ما درج عليه من دون كلل منذ 1989، سواء إبان الحراك الذي سمي «الفتنة» أو «الثورة الخضراء» عام 2009 وأحداث سنتي 2017 و2019 بسبب الغلاء. قصف النظام في خلال أزمته الراهنة، وهي الأخطر والأعمق، المناطق الكردية في الداخل وفي كردستان العراق، من دون أن يعبأ أن عملاً كهذا قد يفاقمها، ومثيراً الخشية من أن يتوسع في تصديرها إلى الدول أو المناطق التي تعتبرها إيران، بحسب وصف المرشد علي خامنئي «العمق الاستراتيجيّ للجمهورية الإسلامية»، والتي «قرر الأميركيون شلها قبل قرار شنّ العدوان على إيران». وتابع متحدثاً عن الأميركيين: «يجب علينا أن نطيح الدول الستّ، وهي العراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان والصومال قبل مهاجمة إيران»، وتابع: «لكن سياسة إيران نجحت في كل من العراق وسوريا ولبنان؛ ما أدّى إلى هزيمة أميركا في هذه الدول».
السؤال هو: هل أحوال إيران اليوم تسمح بتوسعة تصدير أزمتها لا سيما إلى لبنان وفلسطين ودول الجوار؟ وهل أحوال حلفائها في بكين وموسكو بأحسن حال وتسمح لها بإشعال بؤر توتر لحجب الأنظار عن تردي أوضاعها في الداخل؟ الإجابة طبعا بالنفي، إذ حتى قبل اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، كانت هموم إيران الرئيسية الاحتفاظ بمكتسباتها في المنطقة أكثر من التوسع أو التمدد، ما يرجح ألا تفتعل مشاكل ونزاعات جديدة، لا سيما في لبنان وغزة والضفة الغربية بخاصة.
في لبنان، ما كان اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ليتحقق لولا مباركة إيرانية وتفاهمات ضمنية مع الغرب، بعضها لبناني كالتغاضي عن سطوة «حزب الله» على القرار اللبناني، فيما يشبه اعترافاً غربياً بالأمر الواقع، إضافة إلى الفوائد المرتقبة من استخراج الغاز على بيئة الحزب والطائفة الشيعية بخاصة، وعموم اللبنانيين، ما يريحه ويدعم خططه. وبعضها الآخر أبعد من لبنان، كتسمية مرشح «الحشد الشعبي» المقرب من طهران، محمد شياع السوداني، رئيساً للحكومة العراقية وإبعاد مقتدى الصدر بعد أزمة كادت تتحول إلى حرب شيعية – شيعية. ظلُ إيران الذي كان حاضراً في مفاوضات اتفاق السلام الاقتصادي هذا يجعله صلباً، ويرجح استمراره كما الهدوء على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية بما يؤمن مصالح كل من إسرائيل وإيران ولبنان، وبخاصة «حزب الله».
في المقلب الإسرائيلي، الأمور أكثر تعقيداً وهشاشة: حكومة يمينية راديكالية سيتم الإعلان عنها قريباً ملتزمة ربط الضفة الغربية والقدس بإسرائيل، سلطة فلسطينية متهالكة غير قادرة على السيطرة على العنف حتى ولو كان فردياً، وإدارة أميركية تتجنب المشاكل ومزيداً من التوتر مع إسرائيل. السؤال الأهم يبقى حول ما إذا كان توجه الحكومة المنتظرة هو نحو التصعيد أم التهدئة.
بعد التفاهم حول التحالف الحكومي بين حزب ليكود المحافظ بزعامة رئيس الوزراء الإسرائيلي المكلف بنيامين نتنياهو وحزب «القوة اليهودية» اليميني المتطرف الذي يقوده إيتمار بن غفير، يرتقب أن يتولى الأخير وزارة الأمن الداخلي، ما يثير مخاوف بشأن مستقبل العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية بسبب مواقفه السياسية المتشددة والمعادية للعرب. على الرغم من ذلك، قلة من المراقبين تتوقع تغييراً كبيراً في حالة الجمود السائدة، إذ من المرجح ألا تكون للحكومة الجديدة أي مصلحة في عمل عسكري واسع النطاق ولو غير حاسم ضد «حماس»، بل سوف تسعى للمحافظة على شريان حياتها الاقتصادي إلى غزة وقد توسعه تدريجياً، ما يعني تصاريح دخول إلى إسرائيل لأكثر من 17000 من سكان غزة، وتصريحاً يومياً لمئات من شاحنات البضائع الثقيلة التي تعبر الحدود في كلا الاتجاهين. بالمقابل، يبدو أن «حماس» المدعومة من طهران ستستمر على نهج عدم شن هجمات صاروخية ضد إسرائيل، في تعزيز لهذه الحوافز الملموسة كما الهدوء بين الطرفين.
أما في الضفة الغربية، وعلى خلفية التوترات مع المستوطنين وتداعي السلطة الفلسطينية وعمليات «المقاومة» المفترض أنها فردية نتيجة للصلف الإسرائيلي المتمادي، ورد في تقرير لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أن «حماس»، «أقرت علناً بأنها تهدف راهناً إلى نقل القتال مع إسرائيل إلى الضفة الغربية بدلاً من أن يكون على أرضها في غزة»، فيما يبدو محاولات «للوكيل الإيراني الأصلي» باستنساخ وكلاء عنه ولو كانوا أفراداً. ومؤخراً، أدلى المسؤول البارز في «حماس»، محمود الزهار، بتصريح لافت في مقابلة تلفزيونية: «أنا ضد شن حروب دورية في غزة (ضد إسرائيل)، لكن يجب أن تكون هناك حروب دورية في الضفة الغربية». وأضاف: «الضفة اليوم في مرحلة إيلام الكيان الإسرائيلي وطالما هي كذلك لا داعي للتدخل… لأننا لا نريد استنزاف قواتنا في المعارك الجزئية (…) ولكن يمكننا دعمهم من خلال مساعدتهم في تحديد رؤيتهم بشكل أفضل، ومن خلال الصلاة من أجلهم من بعيد».
يبقى أن تطورين من شأنهما زعزعة الهدوء المرجح؛ الأول هو احتمال حدوث مشكلة كبيرة في الحرم القدسي الشريف، ما يمنح «حماس» دور «المدافع» عن الموقع المقدس من خلال إطلاق قذائف صاروخية على أهداف إسرائيلية. والثاني، وهو الأبعد، تطور أمني بين إيران وإسرائيل مع إمكانية أن يفتعل نتنياهو مشاكل ونزاعات لدفع أميركا للوقوف إلى جانبه، في محاولة لتصويب العلاقات بين البلدين، لا سيما أن تركيبة حكومته المتوقعة هي نتيجة الائتلاف المنتخب ديمقراطياً، بينما قيمه مناهضة للديمقراطية، لا بل معادية للمصالح الأميركية. والحال ينسحب على إيران مع احتمال ضعيف أن تحفز الاحتجاجات المستمرة النظام إلى تحويل الأنظار باتجاه إسرائيل فتفتعل هزة جديدة.
على مقلب آخر، ومنذ أن اتهم القائد العام لـ«الحرس الثوري» الإيراني الجنرال حسين سلامي، السعودية، بالتدخل في احتجاجات الشارع الإيراني، لا يمكننا التغاضي عن إمكانية أن نشهد تصعيداً إيرانياً ضد المملكة، خصوصاً في ظل التباينات بين واشنطن والرياض بشأن إنتاج النفط. ويبدو أنه ليس من المصادفة أن رفض الحوثيون المدعومون من إيران في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تجديد الهدنة مع التحالف الذي تقوده السعودية. فهل تحوّل إيران حربها الباردة مع دول الخليج والمستندة أساساً إلى العبث بسلم مجتمعاتها وتهريب الأسلحة إلى وكلائها، إلى حرب ساخنة؟ الجواب الأكثر رجحاناً هو النفي أيضاً، لأن إيران تدرك جيداً أن واشنطن، وعلى الرغم من اختلافها الظرفي مع الرياض، لن تقف متفرجة إذا تعرضت لأي اعتداء. ومع ذلك يجب عدم الاستخفاف بتهديدات إيران على قاعدة أن الأنظمة الاستبدادية تفقد كل منطق عندما تكون مأزومة.
في المحصلة، النظام الإيراني لا يمانع خلق اضطرابات خارجية بهدف التأثير في أزمته الداخلية، لكن هذا النظام الذي دخل في أزمة مع نفسه والمهدد بسبب العقوبات بأمنه الاقتصادي، كما لم يتهدد منذ نشأته، لن يخاطر اليوم بمكتسبات أخذت منه حياكتها عقوداً، وصوته العالي نسبياً يعكس ضعفاً وارتباكاً أكثر منه قوة واعتداداً بالنفس. وإلى أن ينضج حراك الشعب الإيراني ويعطي ثماره، عسى ألا يرتد فشل النظام الإيراني التمويه عن أزمته الداخلية عبر زعزعة جيرانه على الإيرانيين الأحرار المنتفضين، ومنهم من احتفى بهزيمة فريقه الوطني في المونديال!

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها