محمد صبحي

الأحد ٢٨ أيار ٢٠٢٣ - 14:44

المصدر: المدن

مهرجان كانّ وزّع جوائزه..لمَن يستحق ومَن لا يستحق

فاز، أمس السبت، فيلم “تشريح سقوط”Anatomy of a Fall ، للمخرجة الفرنسية جوستين ترييت، بجائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم في مهرجان “كانّ” السينمائي في دورته الـ76، وبذلك تصبح ترييت ثالث امرأة تفوز بهذه الجائزة المرموقة، بعد الأسترالية جين كامبيون في العام 1993 (عن فيلمها “البيانو”) والفرنسية جوليا دوكورنو في العام 2021 (عن فيلمها “تيتان”).

إعلان التتويج كان متوقعاً بعض الشيء، خصوصاً بعدما أخذت جين فوندا الميكروفون للإعلان عن الجائزة وسلّطت الضوء على وجود سبع مخرجات في المسابقة الرسمية (وهو رقم قياسي في تاريخ المهرجان العريق)؛ كان التوقّع أن خاتمة الحفلة ستكون نسوية. حين صعدت جوستين ترييت (44 عاماً) إلى المنصة لاستلام سعفتها، ألقت خطاباً موجزاً، قوياً بصبغة سياسية واضحة ضد إصلاح المعاشات التقاعدية في فرنسا وضد تخفيض موازنات المؤسسات الثقافية التي هدّد إيمانويل ماكرون بتنفيذها.

قالت المخرجة “هذا العام شهدت فرنسا رفضاً تاريخياً قوياً بالإجماع لإصلاح نظام التقاعد”، وأكملت وسط تصفيقات ضجّت بها قاعة الاحتفال، “لقد أُنكر هذا التعبير عن الرأي وقُمع بشكل فاضح، وهذا النمط المتزايد من الهيمنة على السلطة آخذ في الانتشار في مناطق مختلفة. أولاً على المستوى الاجتماعي، وهذا هو المكان الأكثر تأثّراً. ولكن أيضاً في جميع مجالات المجتمع الأخرى، والسينما ليست استثناء ولا يمكن أن تكون”.

“تشريح سقوط” فيلم صلب، يخوض في دراما نفسية وتشويقية، مدعوم بسيناريو مشدود وأداء استثنائي للممثلة الألمانية ساندرا هولر، ويروي حكاية تفكّك زوجين من خلال عملية قضائية تشمل ابنهما، الذي يجب أن يشهد في المحكمة باعتباره شاهداً على وفاة والده في حادث مشكوك في أسبابه وتُتهّم والدته بالضلوع به. لكن على الرغم من مزايا فيلم ترييت العديدة، إلا أنه يفتقر إلى المكانة والعمق اللذين تتمتع بهما الأفلام الحائزة على السعفة الذهبية عادةً.

ربما كان ينبغي أن تذهب الجائزة الأولى إلى الفيلم الحائز الجائزة الكبرى للجنة التحكيم، “منطقة الاهتمام” للمخرج البريطاني جوناثان غلايزر. في الفيلم المستوحى من رواية بالعنوان ذاته لمارتن آميس (الذي توفّي في اليوم نفسه الذي عُرض فيه الفيلم للمرة الأولى في “كانّ”)، يروي غلايزر بدقّة جرّاح بارد الحياة اليومية الوحشية للقائد النازي رودولف هوس (كريستيان فريدل) وزوجته هيدويغ (مرة أخرى ساندرا هولر في دورٍ رائع)، في منزلهما الجميل بجوار معسكر اعتقال أوشفيتز.

على عكس فيلم ترييت، يفضّل غلايزر إيلاء اهتمامه بالميزانسين mise-en-scène على حساب النصّ. وهذا الرهان يؤكّد نجاعته وذكائه: فعبر بناء فيلمه على أساس اللقطات العامة فقط، يترك السرد معسكر الاعتقال المجاور بعيداً عن الشاشة، ومع ذلك، يمكن للمتفرّج رؤية الدخان المستمرّ الطالع من مدخنة فرن حرق الجثث، حيث تتعالى صرخات وطلقات رصاص لا يبدو أنها تزعج أطفال الزوجين أو تحرّك في والديهم أي شعور. ما يحقّقه غلايزر – بأسلوب جليدي بقدر المسافة التي يأخذها من موضوعه السرّي، يذكّر كثيراً بسينما النمساوي مايكل هانيكه، على الرغم من غياب سادية الأخير – هو تسليط الضوء بطريقة خفية على آلة القتل الوحشية التي مثّلتها النازية. من خلال عدم منح هوس وزوجته هيدويغ (ناهيك عن أطفالهما) الفرصة للظهور في لقطات مقرّبة أو الانغماس في حياتهما، يتجنّب الفيلم أي أنسنة محتملة للشخصيات.

كانت اللحظة المخصّصة لجائزة غلايزر عاطفية مؤثرة بشكل خاص، لأن الشخص المسؤول عن تقديمها، كوينتين تارانتينو، استدعى المنتج والمخرج الأسطوري روجر كورمان (97 عاماً) إلى المسرح، والذي استُقبل بحفاوة بالغة في قاعة غراند لوميير المهيبة.

من ناحية أخرى، فمن المؤسف أن لجنة التحكيم التي ترأسّها المخرج السويدي روبين أوستلوند، الحائز السعفة الذهبية العام الماضي بفيلمه “مثلث حزن”، والمخرجة الفرنسية جوليا دوكورناو والمخرج الأرجنتيني دميان سيفرون والمغربية مريم توزاني، من بين آخرين، حذفوا تماماً من قائمة الفائزين أفلاماً أخرى أعلى قيمة، والتي أظهرت، بإجماع النقاد الدوليين المتواجدين في مدينة كانّ، رؤية سينمائية تليق بما هو متوقع من المهرجان. عناوين مثل “اختطاف” للمخرج الإيطالي ماركو بيلوكيو، و”الوهم” للإيطالية ايضاً أليتشي رورفاتشر، والفيلم الوثائقي الرائع “شباب (ربيع)” للمخرج الصيني وانغ بينغ.. خرجت خاوية الوفاض، عندما ذهبت جائزة أفضل مخرج للفيتنامي (المقيم في فرنسا) تران آن هونغ عن فيلمه “شغف دودان بوفان”، وهو عمل يخضع تماماً للتقاليد القديمة لما يسمّى بـ”السينما عالية الجودة” والتي استنكرتها جماعة “الموجة الفرنسية الجديدة” ومجلة “دفاتر السينما” منذ ما يقرب من 70 عاماً.

في المقابل، فاز فيلم “أوراق متساقطة” للمخرج الفنلندي العظيم آكي كوريسماكي بجائزة لجنة التحكيم، والتي تعتبر بالنسبة لصانع أفلام بقيمته أقل من عزاء. في الواقع، لم يتواجد كوريسماكي في مدينة كانّ ليلة السبت (أو ربما قرّر عدم الذهاب إلى الحفلة) وصعد ممثلّ عنه لاستلام الجائزة، حيث قرأ كلمة شكر شديدة الإيجاز:”ميرسي”، تبعتها تصفيقات وصيحات!

جائزة السيناريو ذهبت، كما كان متوقعاً، إلى ساكاموتو يوجي عن فيلم “وحش” للياباني هيروكازو كوريدا، أما في بقية الجوائز، ذهبت جائزة أفضل ممثل إلى الياباني الممتاز كوجي ياكوشو، لدوره القيادي الاستثنائي في “أيام مثالية” لفيم فيندرز، حيث لعب دور رجل غامض بقدر ما هو صامت (قضى أكثر من ساعة دون أن يتفوّه بكلمة واحدة)، ولا تكاد تمضي لقطة في الفيلم من دون أن يظهر فيها. بينما ذهبت جائزة أفضل ممثلة للتركية ميرفه ديزدار عن أدائها القوي في فيلم “عن أعشاب جافّة” للتركي نوري بيلجي جيلان.

أما خارج لجنة التحكيم الرسمية، ذهبت جائزة الكاميرا الذهبية (الممنوحة لأفضل عمل أول في كافة أقسام المهرجان) في طريق أكثر إنصافاً واستحقاقاً، بمنحها لفيلم “داخل صدفة كوكون الصفراء”، باكورة أعمال الفيتنامي فام ثين آن، والذي يمكن اعتباره اكتشاف هذه النسخة من مهرجان كانّ السينمائي.

عربياً، كان هناك نصيب من الجوائز في هذه النسخة الاستثنائية التي شاركت فيها أكثر من 10 أعمال عربية. تركّزت الجوائز الأهمّ في قسم “نظرة ما”، حيث فاز الفيلم الوثائقي “كذب أبيض” للمغربية أسماء المدير بجائزة الإخراج ، وفاز فيلم “كلاب الصيد” لمواطنها كمال لزرق بجائزة لجنة التحكيم، كما فاز الفيلم السوداني “وداعاً جوليا” للمخرج محمد كردفاني بجائزة الحرية المقدّمة من القسم نفسه.

وحظي الفيلم الأردني “إن شاء الله ولد” لأمجد الرشيد، والمشارك ضمن قسم “أسبوع النقّاد”، بجائزة “جان فاونديشن” لتوزيع الفيلم داخل فرنسا.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها