مصطفى فحص

الأحد ١٤ نيسان ٢٠١٩ - 10:13

المصدر: الحرة

موسكو ومأزق الخيارات التركية

من موسكو، وفي ثلاثة لقاءات بين الرئيسين الروسي والتركي هذا العام، ضيّق رجب طيب أردوغان هامش المناورة مع “حلفائه” غربا، ووسع نطاق المصالح مع “خصومه” شرقا.

إشارات الاستدارة الجيوسياسية لأنقرة تكشف صعوبة قدرتها على الاستمرار مستقبلا ضمن الحيّز الرمادي الذي تبناه أردوغان بعد انتهاء صلاحية النظرية الدبلوماسية التي وضعها مهندس العقيدة السياسية للحزب الحاكم داود أغلو المعروفة بـ”صفر مشاكل”، وذلك عندما فرضت الثورة السورية على أنقرة المبادرة والخروج من منطقة الصفر إلى نطاق التوسع الإقليمي.

أصيبت أنقرة حينها بخيبة أمل كبيرة نتيجة رفض حلفائها التقليديين في حلف الناتو تغطية خروجها، فتسبب الناتو بخسارة أنقرة فرصتها الذهبية في إعادة إنتاج نفوذها ضمن نطاق حضورها التاريخي في المنطقة، التي كانت ولم تزل تعيش تداعيات الصراعات الكبرى على الموروث العثماني الذي تُشكل ثرواته وممراته البرية والبحرية أولوية في التحالفات الإقليمية والدولية. إذ تتحرك الأطراف القادرة على التأثير في هذه المنطقة الجيوستراتيجية لفرض نفوذها وتوسيع دائرة مصالحها التي فرضت على الجميع التعامل بمنطق المكاسب بعيدا عن رواسب التاريخ.

ليس سهلا على أنقرة الانتقال الكامل من مسار جنيف إلى آستانا

في لقاء الكرملين الأخير بين القيصر (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) والسلطان، ركز الطرفان على لغة الأرقام؛ فقد فرضت صفقات التسلح وخطط نقل الطاقة عبر السيل التركي وبناء أربع محطات نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية ورفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين إلى ما فوق 30 مليار سنويا والتخطيط لإيصاله إلى مستوى 100 مليار دولار مستقبلا، فرضت نفسها على العلاقة بينهما.

بدورها، كشفت هذه العلاقة عن استعداد أنقرة إلى إعادة تموضعها الاستراتيجي وفقا لحساباتها الجغرافية ومصالحها الاقتصادية، وعن نية موسكو استمرارها في الاستفادة من السياسات الأميركية والغربية تجاه أنقرة، والتي اتخذت في مرحلة باراك أوباما واستمرت مع ترامب، وكان هدفها تحجيم الدور التركي الذي وصفته أنقرة، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية وتخلي الناتو عن الدفاع الفعلي عنها، بالطعنة بالظهر التي أسست لردة فعل سياسية أصابت القادة الأتراك الذين لجأوا إلى فتح التعاون الموسع مع موسكو، والذي يمكن توصيفه بمتلازمة ستوكهولم (هي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع خاطفيه).

التحول في العلاقة أثبت مقولة أن بعد كل عداء شرس محبة. نجح عراب المصالحة الروسية التركية ورئيس أوزبكستان السابق نور سلطان نزاربييف في تطبيقها بين الرئيسين الروسي والتركي، وأهداه مسار آستانا للحل السياسي في سوريا، الذي يمكن اعتباره أول خطوة تركية في الانقلابات الدبلوماسية عبر تبنيها لخطة عمل روسية موازية لمسار جنيف الذي أسسته الأمم المتحدة.

ويمكن اعتبار هذه الخطوة بداية تركية لـ”أقلمة” السياسات الدولية وربطها بمصالح الجغرافيا السياسية والأمن القومي التركي الذي يعيش هواجس المسألة الكردية ويتهم واشنطن برعايتها وحمايتها شرق الفرات السوري.

في العلاقة مع أنقرة، نجح سيد الكرملين في فرض التوازن بين جنرالاته المندفعين نحو المياه الدافئة بغض النظر عن قدرة بلادهم الاقتصادية والسياسية على تحمل أعباء طموحاتها الإمبراطورية، وبين طبقة الأوليغارشية الحاكمة وشركائها في مجمع التصنيع العسكري الروسي الذين يتعاملون مع السياسة كوسيلة لزيادة مكاسبهم التجارية، خصوصا أن أردوغان قرر ـ حتى الآن ـ السير حتى النهاية في شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية أس 400 بالرغم من ما يحمله هذا القرار من عواقب على علاقته مع واشنطن.

وقال أردوغان بعد إعلانه عن تقريب موعد تسلم المنظومة قبل موعدها المحدد في تموز/يوليو المقبل: “نحن واحد من أقوى الجيوش في حلف الناتو، فكيف لم يتطرق أحد إلى هذا الجانب عندما بدأت الانتقادات حول الصفقة؟ أعني لماذا لا يحق لواحد من أقوى جيوش الناتو الحصول على نظام دفاع جوي قوي؟”. موقف أردوغان المتمسك بالصفقة دفع موسكو إلى الإعلان عن استعدادها تزويد أنقرة بمزيد من الأسلحة الاستراتيجية التي تحتاجها.

تسبب الناتو بخسارة أنقرة لفرصتها الذهبية في إعادة إنتاج نفوذها ضمن نطاق حضورها التاريخي في المنطقة

ليس سهلا على أنقرة الانتقال الكامل من مسار جنيف إلى آستانا، كما بات يصعب عليها المواءمة بين الحفاظ على نفوذها في إدلب ودرء ما تراه خطرا كرديا في “روج آفا”. والأصعب من هذا كله، ما هو الثمن الذي يمكن أن تدفعه نتيجة اختيارها بين منظومة إس 400 الروسية وطائرات أف 35 الأميركية، حيث بات من المستحيل أن تجمع بين الاثنين، فنظام مصالحها الإقليمي يستدعي استرضاء موسكو، بينما داخليا فإن جهاز الدولة المسيرة، التي لم تزل في عقيدتها العسكرية والسياسية تنتمي للمنظومة الغربية “الناتو” خصوصا أن هذه القوى البيروقراطية النافذة داخل مؤسسات الدولة، تملك تأثيرا كبيرا على النخب السياسية والاجتماعية التركية وظهر ذلك في نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة في المدن الكبرى.

يواجه أردوغان هذه التحديات، وقد عمّقتها نتائج الانتخابات الأخيرة؛ وأي خطوة ناقصة يمكن أن تعزز من حضور معارضيه السياسي. لكن أردوغان ليس الوحيد في هذه الحيرة، فالرهان الروسي على التحولات السياسيّة التركية، سيصاب بنكسة في حال تراجعت شعبية أردوغان، أو اضطر للتراجع عن التزاماته الروسية.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها