غرازييلا خوري

الخميس ٢٢ أيلول ٢٠٢٢ - 14:16

المصدر: صوت لبنان

نساء الطبقة الوسطى في الانهيار الاقتصادي: من القرار الى التبعية!

الطبقة الوسطى هي الفئة التي لا ترث ثروات طائلة وتكسب رزقها من العمل. ينتمي اليها كل من أكمل المستوى الثانوي في التعليم، على الأقل، ويعمل في القطاعين العام والخاص في فئة الوظائف المكتبية التي يطلق عليها وظائف “الياقات البيضاء”.
هذه الطبقة تلعب الدور الأساسي في تحريك الاقتصاد لأنها الأكثر استهلاكًا ، كما لا يمكن اغفال الدور المحوري الذي تلعبه في الحياة السياسية في البلاد اذ تشير الاسكوا في احد تقاريرها ( الطبقة الوسطى في البلدان العربية قياسها ودورها في التغيير) الى ان هذه الطبقة هي التي تدفع باتجاه التغيير وتسعى نحو ارساء الديمقراطية و المساءلة. ثورة 17 تشرين 2019 اكبر دليل على ذلك .
تحاول المجتمعات زيادة حجم الطّبقة الوسطى لأنّ اختفائها هو مؤشر يدلّ على فشل السياسات الاقتصادية في أي بلد وبمجرّد القضاء على هذه الطبقة سيتمّ حتماً القضاء على ماليّة الدولة وهذه ثابتة في قواميس الخبراء الاقتصاديين مجتمعين ولبنان مثال فاقع عن هذا الواقع .
نساء الطبقة الوسطى: استقلالية اقتصادية وسياسية
المراة من الطبقة الوسطى تمتعت بحياة اقتربت من الترف في الكثير من الأحيان بالاتكال على مدخول محترم استطاعت بلوغه بعد سنين من الدراسة والكد ومواجهة التحديات فتمكنت من مزاحمة الرجال في العديد من القطاعات المصرفية ،التعليمية،الطبية وفي الادارات العامة واعمال خاصة اسسنها.
النساء العاملات من الطبقة الوسطى استطعن في خلال السنين التي سبقت الأزمة ان يثبتن انهن قادرات على قيادة حياتهن،ان كن عازبات، وحياة عائلاتهن ان كن متزوجات، والتأثير في القرارات الاقتصادية للأسرة. ساهمن في المصاريف، شاركن في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأولاد من اختيار المدرسة الى اسلوب التربية. استحصلن على قروض مصرفية باستقلالية تامة عن الشريك او بالتكافل معه كما ان الكثيرات شاركن في دفع اقساط المنزل الجديد باختصار مارست كل اوجه الاستقلالية الاقتصادية وانسحب الأمر على الاستقلالية السياسية ، فأكثر من امرأة صوتت بعكس ارادة زوجها باعتراف الكثيرين.
الوظائف للرجل اولاً : تمكين المرأة مجهود ضائع!
كل هذه الامكانات سقطت في فترة قصيرة، فانقلبت حياة النساء العاملات من الطبقة الوسطى رأساً على عقب، انهارت الليرة امام الدولار وانهارت معها الأحلام التي كانت تراودهن بمستقبل واعد، القدرة الشرائية للرواتب تقلصت بما لا يقل عن 90 % ، واحتجزت المدخرات في المصارف،الأعمال توقفت، وجاءت ازمة كوفيد لتطيح بمئات الوظائف.
في الفترة الممتدة بين تشرين الأول 2019 وتشرين الأول 2020، اي بداية الأزمة، أجرى فريق من البنك الدولي مقابلات مع أصحاب ومديري 379 شركة مُسجَّلة ووجَّه إليهم أسئلة عن المبيعات والإنتاج وإغلاقات الشركات وآفاق المستقبل.
وسجل المسح الملاحظات التالية :
يزيد فقدان الوظائف بين النساء 5% عن الرجال.وعلى سبيل المثال، لقد أثر تسريح العمال بسبب الوباء على النساء بشكل مضاعف ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن أصحاب العمل يفضلون الاحتفاظ بالرجال ، لأنهم يعتبرونهم المعيل الرئيسي.
كما تأثرت ريادة أعمال النساء أيضا في عام 2020، حيث اضطرت مؤسسات أعمال كثيرة مملوكة لنساء أن تغلق أبوابها بسبب الجائحة.
ومن هنا لاحظ المسح ان المجهود الذي بذل لتمكين المرأة اقتصادياً شهد تراجعاً قد يكون من الصعب تعويضه لسنوات كثيرة مقبلة.

بين اليأس والصمود والهجرة
العديد من النساء وجدن انفسهن في مواجهة قدر جديد فرض عليهن فرضاً . من لم يتخل عنها رب العمل وجدت نفسها مضطرة للتخلي هي عن عملها ، مجبرة وحتماً بطلة ، للاعتناء بالزوج والأطفال وربما كبار السن المتواجدين في المنزل بعدما اصبحت الخدمة المنزلية حكراً على الأغنياء.
العازبات ولاسيما في قطاعات التعليم والتمريض والمصارف وغيرها من القطاعات التي تستقطب النساء اخترن ترك البلد الى فرص اكثر استدامة، فخسر لبنان طاقات كان بأمس الحاجة اليها للنهوض.

ليليان صبية عزباء في الثالثة والثلاثين من العمر كانت تعمل في مجال الاعلانات، اعتادت ان تبدل هاتفها المحمول دورياً وسيارتها اشترتها من الشركة عام 2018 راتبها كان يقارب ال 2500$ سنوياً. تعودت ملاحقة آخر صيحات الموضة ولم تكن عمليات التجميل خارج متناولها، واظبت على ارتياد المسارح ودور السينما والسفر سنوياً .
اليوم وبعدما خسرت وظيفتها، ومع وفاة والدها بعد اصابته بفيروس كوفيد، اصبحت المعيلة الوحيدة لوالدتها، اضطرت لبيع سيارتها ومجوهراتها لتأمين المصاريف .
تقول وقد استسلمت لليأس: الوظائف التي تعرض علي لا تكفي مصاريف التنقلات، اجاهد لتأمين ضرورات الحياة ، نحن في بلد لا يلتفت للشباب ولا للكبار في السن ، لا شبكة امان اجتماعي وبرامج المساعدات الممولة من الخارج اضحوكة كبيرة.
اليوم بالكاد تخرج من المنزل، تعاني من الاكتئاب وتحاول الحصول على بعض المهمات اون لاين علها تسد الفجوة الكبيرة في المصروف ، اما الفجوة في حياتها فلن تندمل قريباً !
الخسارة لا تقتصر على الماديات بل على سنوات صرفتها النساء في مراكمة خبرات مهنية في مجالات متخصصة كالاعلام والصحة ولؤسسات المصرفية واضطررن في نهاية المطاف الى التخلي عنها والتحول الى قطاع آخر لا يمت الى خبرتهن بصلة لتأمين الاستمرارية. وهكذا اصبحت موظفة حكومية مصففة شعر، والمعلمة موظفة على صندوق في سوبرماركت،اما جنان حايك فمن مديرة فرع مصرفي الى صاحبة فرن للمناقيش، بدأت العمل فيه منذ اكثر من عام واستقطبت عددا من السيدات ليساعدنها في المهمة فخلقت فرص عمل جديدة رافضة الاستسلام للمصير المحتوم !
نوال من جهتها لم تنتظر ان يصل الانهيار الى مستويات قياسية وفضلت ان تستبق الأمور فتركت لبنان عند اول فرصة بعد الجائحة هي التي كانت ممرضة مجازة. رأت مدخولها يتناقص والمصروف يتزايد ولا من يبالي . تقول انها فقدت رأت اللبنانيين يعانون في المستشفيات ولا تكفيهم اجهزة التنفس الاصطناعي التي عجزت وزارة الصحة عن تأمين اعداد كافية منها وسط نقص فاضح في الأدوية والمعدات الطبية . اضطرت الى النوم في المستشفى لأيام طويلة لتجنيب عائلتها خطار العدوى وكل ذلك دون امل بتحسن محتمل اوخطة لحماية القطاع التمريضي او الصحي ككل. عند اول فرصة حزمت حقائبها وغادرت .
نوال نموذج من نساء كثيرات فضلن الغربة على البقاء في بلد يكمل تدحرجه دون هوادة !

التبعية الاقتصادية والسياسية
غياب الاحصاءات في لبنان يشكل حاجزاً امام الوصول الى ارقام دقيقة ومن هنا لا بد من الاكتفاء بالاحصاءات التي تقوم بها المنظمات الدولية والتي تعود الى سنتين ماضيتين
هيئة الأمم المتحد للمرأة توقعت ان يزيد معدل بطالة المرأة من 14.3 % قبل الأزمة في تشرين 2019 إلى 26 %حتى أيلول 2020، اي من81,200 امرأة إلى 132,500، هذا العدد لا يشكل اكثر من نموذج عن سرعة تفشي البطالة في صفوف النساء ، الرقم الحالي ما زال غير دقيق لكنه على الأرجح ارتفع بشكل ملحوظ.
ليس الأخطر الا تتمكن سيدات الطبقة الوسطى من الانفاق الاقتصادي، على اهميته للدورة الاقتصادية الخطير ان تلك النساء دخلن دائرة عدم التأثير على قراراتهن بعدما فقدن استقلالهن المادي وبتن مرتبطات مباشرة بأزواجهن وعاجزات عن اتخاذ قرارات اقتصادية او حتى سياسية كانت ملكهن، بعض السيدات اضطررن للتصويت للجهة التي دفعت للمعيل مساعدات مالية .
ايناس امرأة في الخمسين من العمر كانت تملك محلاً لبيع الحلي والأكسسوارات ، بعد الأزمات المتتالية وجدت نفسها غير قادرة على دفع التكاليف التي ارتفعت بشكل فاحش ناهيك عن احجام العديد من النساء عن شراء الكماليات . اقفلت محلها ففقد البيت مصدر رزق مهم. امام الواقع وجد زوجها نفسه مضطراً للجوء الى احد النافذين طلباً للمساعدة وكان الثمن منحه اصوات العائلة في الانتخابات النيابية وهكذا كان .
بهذه الطريقة فقدت الكثير من النساء حرية القرار والتأثير في الحياة السياسية .

الى اين ؟
لطالما عانى لبنان من فجوة في توزيع الوظائف بين الجنسين. فالرجال يحظون ب 75 % من الوظائف مقابل 25% فقط للنساء وجاءت الأزمات لتزيد الطين بلة وتوسع الفجوة .
اليوم المعالجات مطلوبة وبشكل سريع. على الرغم من الهريان الذي يضرب جسم الدولة فلا يمكن الهروب من دور الزامي يجب ان تلعبه الحكومة في معالجة هذا العطب الأساسي المستجد عبر اجراءت سريعة تحمي اولاً الطبقة الوسطى لتعود الى لعب دورها الاقتصادي والسياسي التغييري وثانياً نساء هذه الطبقة اللواتي شكلن نموذجاً لما يمكن ان تكون عليه المرأة الفاعلة والناشطة فتسهر اولاً على تنفيذ القانون الذي ينص على المساواة في الأجور لزيادة المشاركة الاقتصادية للمرأة اضافة الى توفير امكانية الوصول الى رعاية للأطفال بأسعار مدروسة وهذا يتحقق فقط من خلال سياسات لا تبدو على رأس اولوية الحكومة .

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها