المصدر: صوت لبنان
هل تساوم إيران على تحويل “حزب الله” إلى “مقاومة بالمراسلة”؟
ليس خافياً أن الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين جرجر فشله من بيروت إلى تل أبيب، بعدما تبلّغ من “حزب الله” عبر الرئيس نبيه بري موقفاً نهائياً حاسماً بربط حرب جنوب لبنان بحرب غزة وعنوانها الأخير رفح.
والواضح أن هذا الربط المُحكَم هو، في حقيقته، ربط ناري عسكري فقط وليس ربطاً سياسياّ، لأن الحلّ في غزة يختلف عملياً عن الحلّ في الجنوب، ولا يمكن تطبيق الإجراءات والتسويات نفسها هنا وهناك.
و”اليوم التالي” في غزة يختلف عنه في لبنان، لأن إيران لا تملك خط جبهة مباشرة أو خطوط تماسّ جغرافيّة ميدانيّة مع إسرائيل إلّا عبر الجنوب اللبناني، بعدما تمّ سحب الجولان والنظام السوري من “وحدة الساحات”.
ولكنّ هذا الربط الناري لا يعني وقفاّ تلقائياً للنار في الجنوب فور وقفها في غزة، خلافاً لما حصل في هدنة سابقة، وخلافاً أيضاً لما يكرّره “حزب الله” وطهران منذ اندلاع “حرب المشاغلة والمساندة” في ٨ تشرين الأول الفائت.
ويعود السبب، فضلاً عن الفصل الإسرائيلي، إلى أن إيران لا تستطيع التأثير أو التحكّم بصيغة الحلّ السياسي في غزة وطبيعة الحكم فيها ومدى ربطها بالضفة الغربية والسلطة الفلسطينية العتيدة حين يحين موعد حلّ الدولتين عاجلاً أم آجلاً، ولكنّها تمتلك التأثير والتحكّم بجبهة لبنان من خلال جهوزية “الحزب” والترسانة المتطوّرة التي زوّدته بها.
لذلك، ليس ثابتاً أن حرب الجنوب ستنتهي حكماً بانتهاء حرب غزة، لأن هناك مطبّات شائكة وحسابات شديدة الدقة والصعوبة لملفّ النفوذ الإيراني من الناقورة إلى باب المندب، ومن ضاحية بيروت إلى صنعاء.
والمطبّ الأصعب يكمن في أوراق التسوية المطروحة، وتتلاقى فيها المساعي الأميركية والفرنسية والشروط الإسرائيلية، وتنقلها مكّوكيّات هوكشتاين، ومحورها فكّ الارتباط العسكري الميداني بين “الحزب” وإسرائيل، مع ما يحمل هذا الطرح من إبعاد وحداته المقاتلة لمسافة تكفل عودة المستوطنين إلى الشمال الإسرائيلي والهدوء المستدام على طرفَي الحدود، ما يسمح بحل الخلافات على النقاط الملتبسة ووضع ترتيبات التسوية.
فهل تتفاوض طهران مع واشنطن وإسرائيل على تسليم ورقتها الأثيرة، وربما الأخيرة، في مواجهتها “العقائدية” المزمنة مع الدولة العبرية، وتدعو ذراعها الأقوى إلى إخلاء ميدان جنوب الليطاني والانحسار إلى شماله، وما هو الثمن الذي تطلبه في لبنان والمنطقة؟
لا شكّ في أن إخلاء “حزب الله” منطقة التماس مع إسرائيل يُفقده العنوان الوحيد الذي يرتكز عليه، أي “المقاومة الإسلامية”، كما يُفقد طهران خطّها الأول على الجبهة، وتصبح أذرعها متساوية في محدودية الفاعلية “عن بُعد”، “تقاوم” بالمسيّرات والصواريخ وليس بوحدات القتال البرّي الذي لا تزال له الأولوية في الحروب رغم التطوّر الهائل في تكنولوجيا الجو والبحر ووسائل التجسّس والاستعلام الذكية. والحرب في أوكرانيا خير مثال حيث اضطرت روسيا إلى إنزال مئات آلاف المقاتلين إلى جبهات القتال.
والمثال الحيّ الآخر مئات الصواريخ والمسيّرات التي أطلقتها إيران على إسرائيل في الآونة الأخيرة، وكذلك صواريخ الحوثيين والفصائل العراقية، وقد لمس الجميع ضعف تأثيرها على مجرى المواجهات، وقصورها عن تغيير الموازين والمعادلات.
فهل توافق طهران على تحويل “الحزب” إلى “مقاومة بالمراسلة” من وراء الليطاني؟
هذه هي، في الحقيقة، العقبة الكأداء التي اعترضت وتعترض مهمة هوكشتاين، وقبله ما طرحه موفدو الرئيس الفرنسي ماكرون.
وليس هناك أي مسعى لإعادة عقارب الساعة إلى ٧ تشرين، وإبقاء القديم على قِدَمه، أي عدم تنفيذ كامل للقرار ١٧٠١، واستمرار حرية عناصر “حزب الله” في التنقّل بأسلحتهم ومجموعاتهم المنظّمة على تخوم الخط الأزرق بحجّة أنهم أبناء القرى الحدودية.
وهناك في هذا المجال مغالطة سافرة في القول إن انسحاب هؤلاء المقاتلين يفرض انسحاب الجيش الإسرائيلي للمسافة نفسها عن الحدود، لأن المعادلة وفقاً لاتفاق الهدنة والقرار ١٧٠١ هي بين جيشَين نظاميَّين، وليست بين جيش وميليشيا. والجيش اللبناني سيبقى منتشراً على كل الحدود الجنوبية وسيتمّ تعزيزه بالتعاون مع قوات ال”يونيفل”. وإذا ثبُت أن هناك ميليشيا إسرائيلية لا تأتمر بالجيش، تصحّ إذذاك نظرية بقاء ميلشيا “الحزب” المستقل القرار والحركة، أو تلتزم ال”ميليشيتان” أوامر جيشيهما!
إذاً، لا تقتصر المشكلة على ربط وقف نار الجنوب بغزة، بل تتعدّاه إلى جوهر وظيفة “الحزب” كذراع متقّدمة لإيران، بين أن يبقى طليعة ميدانية متّصلة تتفرّد بقرارَي السلم والحرب، أو أن يتحوّل إلى حالة حوثية أو “حشديّة” إضافية مكلّفة ب”المقاومة” المنفصلة عبر المسافات.
بين هذين الحدَّين تراوح مساعي إدارة الرئيس جو بايدن قبل أن تدخل غيبوبة معركتها الرئاسية، كما تراوح مأساة الجنوب ولبنان على حافة الحرب الواسعة المدمّرة أو استمرار حرب الموت البطيء بالاستنزاف، ولو كان استنزافاً مزدوجاً ومتقابلاً يؤمّن شيئاً من العزاء المتبادَل للمشاركين فيه.
وليس في المعطيات ما يشي بأن تفادي الحرب الواسعة أمرٌ محقّق طالما أن انسداد سبُل الحلول الدبلوماسيّة هو الراجح إلى الآن، وطالما أن السباق محتدم بين الطرفين لعرض عضلات القوة وامتلاك التكنولوجيا في المبارزة الجوّية والبرّية، وأيضاً البحرية، وفقاً للتهديد الذي أطلقه أمس السيّد حسن نصرالله وشمل فيه البحر المتوسّط الذي ينتظره “شيء كبير جدّاً”، وكذلك تهديده قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي.
والمعروف أن حفلات المصارعة والملاكمة على الحلبات تبدأ غالباُ بعرض العضلات.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها