سام منسّى

الأحد ٦ آب ٢٠٢٣ - 15:15

المصدر: عروبة 22

هل من تنافس صيني-أميركي في المنطقة؟

تزايد الاهتمام بالدور الصيني في منطقتنا بعد توقيع الاتفاق بين السعودية وإيران برعاية صينية، خصوصًا لجهة بُعده السياسي إذ طبّع علاقات مأزومة منذ سنوات أدّت في أكثر من مكان إلى اندلاع نزاعات وحروب وقلاقل كثيرة. ترافق هذا الاهتمام مع سؤال بشأن إمكانية الصين ملء الفراغ الذي نشأ على ما يبدو أنه انسحاب أميركي من المنطقة؟ الإجابات كثيرة ومتباينة بحسب الهوى والميول السياسية، سيّما أنّ الكثيرين ينتظرون، بل يعملون بحماسة لطرد واشنطن منها.

في الواقع يتفرّع عن السؤال الأول أسئلة ثلاث: هل الصين راغبة أن تحلّ مكان الأميركيين في الإقليم؟ هل هي مهيئة وقادرة على مثل هذا الدور؟ وهل واشنطن عازمة على الانسحاب فعلًا من الشرق الأوسط أو أقلّه من العالم العربي وقضاياه ومشاكله؟

 

مما لا شك فيه أنّ الصين تتوسّع في المنطقة ويمكنها انتزاع حيّز واسع من الحصة المالية-الاقتصادية الغربية، كونها لا تحمل صورة استعمارية في الذاكرة العربية وتمتلك قدرات تكنولوجية تنافس الغرب في نواح كثيرة ولديها مشروع اقتصادي دولي مستقبلي اسمه “طريق الحرير” يصعب تنزيهه عن السياسة. ومنذ فترة طويلة، تجاوزت تجارة الصين تجارة الولايات المتحدة مع المنطقة، وبحلول عام 2019، تجاوزت أيضًا الاتحاد الأوروبي لتصبح الشريك التجاري الرائد لها. ولذلك، باتت اليوم قادرة أكثر من الولايات المتحدة على لعب دور أكبر في الشرق الأوسط.

هل يعني ذلك أنها راغبة بالحلول مكان الولايات المتحدة؟ صحيح أنها اكتسبت مصالح اقتصادية كبرى، وتشتري كميات كبيرة من النفط وتبيع السلع المصنّعة وتبني نسبة متزايدة من البنية التحتية في المنطقة، لكنها تفتقر إلى القدرة على الدفاع عن هذه المصالح عسكريًا، وبالتالي تعتمد على الولايات المتحدة للحفاظ على الاستقرار الإقليمي وحماية الممرات البحرية التي تنقل ناقلات النفط إليها. طبعًا قد تكون الرغبة بزيادة نفوذها موجودة لكنها مكبوحة اليوم برغبة الصين تثبيت وتمكين علاقاتها الاقتصادية في هذه المرحلة قبل الإنتقال الى الحيّز السياسي، وليس الإتفاق السعودي-الإيراني سوى الدليل على هذه السياسة الهادفة إلى تعزيز الاستقرار لتحفيز الإستثمارات وحمايتها.

في المقابل، الشهية العربية بعامة منفتحة على دور للصين في المنطقة وسط تحوّل السياسات الخارجية للعديد من دول الإقليم نحو التحالفات المتعددة، وبخاصة شركاء الولايات المتحدة التقليديين مثل مصر والسعودية والإمارات. هؤلاء باتوا يسعون إلى شراكات مع قوى متعددة بينها الصين والهند وروسيا، ليس بسبب ما يبدو أنه تراجع الوجود العسكري لواشنطن من دون أن يغيب عن هذه الدول حجم الاستثمارات العسكرية لواشنطن في الشرق الأوسط، إنما أيضًا الحاجة إلى الصين في مجالات كثيرة مثل البنية التحتية والتكنولوجيا حيث يرون أنّ واشنطن أقلّ قدرة أو استعدادًا لمساعدتهم. ويسعون أيضًا للحصول على أنظمة عسكرية معيّنة مثل الطائرات المسيّرة المتقدّمة، التي أبقتها أميركا محظورة. علاوة على ذلك، ليس بين الصين والدول العربية تباينات بشأن الأنظمة السياسية أو بشأن السياسات الخارجية بعامة، وقد تمكنت بيجين من البقاء على مسافة متساوية من القوى المتنافسة في المنطقة، ما سمح لها بتصوير نفسها على أنها وسيط غير متحيّز.

أما بشأن القدرة الصينية متى وجدت الرغبة بملء الفراغ الأميركي إذا حصل، فتبدو مستبعدة في المديين القريب والمتوسط، والقفز إلى الاستنتاج أنّ واشنطن عازمة على الانسحاب الكامل من المنطقة يبدو بدوره متسرّعًا على الرغم من كل مظاهر التردّد والالتباس والغموض إزاء مقارباتها لمشاكلها. ويؤخذ عليها أنها تتعاطى معها بالقطعة دون سياسة أو استراتيجية متكاملة يمكن وصفها بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، ولعلّ هذا الأمر هو وراء الانطباع أنها منسحبة، فضلًا عن رغبة البعض بالاعتقاد أنها مصمّمة على الانسحاب. لن نعدّد أماكن الوجود العسكري الأميركي والروابط الأمنية والعسكرية مع دول المنطقة، إذ يكفي متابعة التحركات الأميركية بعد الاتفاق السعودي – الإيراني لرسم صورة واضحة.

فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، نشرت الولايات المتحدة موارد عسكرية إضافية في المنطقة، وزادت من الدوريات والتدريبات المشتركة حول مضيق هرمز، وأشارت إلى أنها ستدفع إلى الأمام بصفقات الأسلحة مع شركاء إقليميين مثل السعودية والإمارات، وتوسيع نطاق التدريب مع مصر والكويت وغيرهما، كل ذلك في محاولة واضحة لطمأنة الشركاء العرب على التزامها بأمن الشرق الأوسط. من دون أن نغيّب الوجود الرمزي إنما الحيوي في سوريا، والموقف من إيران لا سيما إزاء أنشطتها النووية والصواريخ الباليستية وغيرها، إلى جانب الإلتزام الثايت بأمن وسلامة إسرائيل. وفي هذا السياق، ثمة ما يعزّز الاعتقاد بخفوت وهج الانسحاب الأميركي من المنطقة وهو الاهتمام المتنامي لدى الأميركيين، ديمقراطيين أم جمهوريين، بتعزيز مسار الاتفاقات الإبراهيمة وتوسيعها من جهة، ومن جهة أخرى ربطها بحلول ترضي الفلسطينيين وتعيد الحياة إلى حلّ الدولتين، وهو ما أشارت إليه مؤخرًا أكثر من وسيلة إعلام أميركية بالكلام حول مبادرة جديدة لإدارة بايدن أبرزها ما كتبه توماس فريدمان الأسبوع الفائت في “نيويورك تايمز”.

المحصّلة أنّ السياسة دينامية متواصلة وعناصرها متشابكة والأدوار متبدّلة، مستقبل الصين والولايات المتحدة في المنطقة مرتبط بعوامل كثيرة عربية وصينية وأميركية داخلية وخارجية، ومتأثرة كلّها بمناخ العلاقات الدولية. واشنطن على الأرجح مقتنعة أنها بحاجة إلى نهج جديد في المنطقة عماده عدم اقتصار وجودها على النواحي الأمنية والعسكرية والتزويد بالسلاح، بل بتخطي ذلك ليطال الاجتماع والاقتصاد والحوكمة داخل الدول، إضافةً إلى تقبّل جوانب إيجابية لوجود الصين المتنامي في الشرق الأوسط. الى ذلك، تدرك أنها تبقى الراعي الأمني الأول للشرق الأوسط في المستقبل المنظور من دون تحديات تُذكر. على الرغم من انخفاض العدد الإجمالي للقوات الأميركية في المنطقة، تواصل واشنطن إنفاق المليارات سنويًا على المساعدة الأمنية لها، وزادت حصّتها في سوق الأسلحة الإقليمية من 47% في الفترة 2010-2014 إلى 54% في الفترة 2018-2022.

أما بيجين، فهي تشقّ طريقها في الإقليم عبر مبادرة “الحزام والطريق” واحتواء عدد من التباينات مع بعض دوله، أبرزها إساءة معاملة الصين لأقلية الأويغور المسلمة التي تخلق احتكاكات مع إيران والسعودية وتركيا وغيرها.

في المقلب العربي، نهج توسيع التحالفات مستمر وثابت وتظّهّر أكثر بعد الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية الصين، وعزم السعودية في الوقت عينه شراء عدد كبير من الطائرات المدنية من شركة بوينغ الأميركية إضافةً إلى تدريبات عسكرية مشتركة. ومن أبرز الأمثلة على هذه الاستراتيجية الواعية هو مجموعة I2U2 التي تم تشكيلها في عام 2022 من قبل الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة لمعالجة قضايا مثل الأمن الغذائي والطاقة والصحة العامة بشكل مشترك.

الخلاصة أنّ الأطراف الثلاثة تشهد متغيّرات كثيرة لا سيما داخلية. العالم العربي في بعض دوله، خاصة الخليجية منها، يتجه أكثر فأكثر نحو حوكمة رشيدة والمزيد من الشفافية وحكم القانون ولو ببطء. في المقابل الصين تسير باتجاه المزيد من التشدّد السياسي والعودة إلى أنماط سابقة في الحكم مثل قضية إقالة وزير الخارجية الصيني تشين جانج من منصبه، بعد أن اختفى عن الأنظار الشهر الماضي، وتزوير المواقع الإلكترونية والبيانات الإخبارية لحذف مشاركة وزير الخارجية المختفي وإنجازاته، بما يؤشر أنّ الصين لن تتغيّر إيجابًا على هذا الصعيد وتذكّر بأسلوب السياسة في عصر ماو تسي تونغ. أما الولايات المتحدة، فهي أيضًا تشهد نموًا خطيرًا للتيارات اليمينية المتشدّدة مع حالة إستثنائية عنوانها دونالد ترامب أدت مع غيرها من العوامل إلى تجاذب سياسي حاد مع اليسار الليبيرالي المتشدّد إلى حدود الإيديولوجيا. عندما تتضح نتائج هذه التحوّلات، نستطيع الإجابة ما إذا كانت الصين ستأخذ مقعد أميركا في المنطقة بعد انحسار المنافسة مع الأفول المتوقع للدور الروسي، إنما اليوم، لم تحلّ الصين بعد مكان أميركا في الشرق الأوسط.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها