فرح منصور

الأحد ٢٠ آب ٢٠٢٣ - 18:06

المصدر: المدن

13 دولة تطارده بأدلة فادحة: “مهزلة” سلامة بالقضاء اللبناني

جُمّدت حسابات حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة المصرفية في أوروبا، ووُضعت اليد على عقاراته المتوزعة في مختلف الدول. القضاء الألماني وحده تمكن من تجميد أكثر من 25 مليون يورو من عقارات يملكها سلامة في ألمانيا. فوصل عدد البلاد التي تُلاحقه في قضايا الفساد المالي أكثر من 13 بلدًا أوروبيًا، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية التي دققت منذ أشهر في حساباته المصرفية وعقاراته الموجودة على أراضيها، لتقرر مؤخرًا فتح تحقيق بحق سلامة في نيويورك.

سرعة لافتة
فيما بعد، واظب الوفد الألماني على زيارة قصرعدل بيروت، بصورة مستمرة، بالرغم من انتهاء جلسات الاستجواب منذ أشهر، حين استمعت الوفود الأوروبية لعدد لا يُستهان به من الشهود والمشتبه بهم في ملف سلامة، فحصلت على الكثير من المعلومات والمعطيات التي خدمت الملف القضائي.
“إلحاح” القضاء الألماني كان واضحًا، يريد الحصول على “مستندات خاصة” من المصرف المركزي، سيما أن مطلبه هذا أثار حفيظة القضاء اللبناني، الذي اعتبره انتهاكًا مباشرًا لسيادة الدولة اللبنانية، فلا يمكن لأي قضاء أجنبي أن “يقتحم” المصرف المركزي للحصول على المستندات، وإن كانت كفيلة بفضح خبايا سلامة. ووفقًا لمعلومات “المدن”، فإن القضاء الألماني زار قصر عدل بيروت مرات عدة، خلال الأسابيع الماضية لإعادة المطالبة بضرورة الحصول على مستندات خاصة من مصرف لبنان. فهو يعتقد بأن سلامة استخدم حسابات مزورة في مصرف لبنان لتهريب أمواله إلى الخارج.

الإجراءات القضائية الأوروبية
مرحلة قصيرة، لم تتخط الثمانية أشهر فقط، زارت فيها الوفود الأوروبية الأراضي اللبنانية أكثر من 3 مرات، استمعت للشهود والمشتبه بهم لساعات طويلة ولأيام عدة، واستجوبت مجموعة أخرى في المحكمة الفرنسية. صدرت مذكرات التوقيف الدولية، عُممت عبر الإنتربول، جُمدت الأموال والعقارات، وثُبّت الحجز لصالح الدولة اللبنانية، وكُشف الكثير من خبايا عائلة سلامة، والكثير من تجاوزات سلامة داخل “منجم الذهب”. تعاون أكثر من 13 بلدًا أوروبيًا على تأكيد عبارة واحدة فقط: رياض سلامة مُتهم بتبييض الأموال والتزوير والاختلاس من المال العام اللبناني، وشركة “فوري” وهمية، ويجب مُلاحقته قضائيًا، لتُكشف الشبكة الكاملة التي عاونت سلامة على مدى ثلاثين عامًا.

المسار اللبناني
شهر واحد فقط كان جدار الفصل بين القضائين الأوروبي واللبناني، ففي نهاية شباط الماضي، ادعت النيابة العامة على سلامة وشقيقه ومساعدته المصرفية، فكانت النتيجة تحقيقات أجرتها النيابة العامة التمييزية على مدى سنة كاملة في هذا الملف، وأحيل الملف إلى قاضي التحقيق الأول، شربل أبو سمرا. وبدأت الحلقات الأولى من مسلسل سلامة “الهزلي” لبنانياً.

الساحة اللبنانية لاءمت سلامة وناسبته، فتلاعب بالوقت، وبدأت مناوراته داخل القضاء اللبناني. قدّم الدفوع الشكليّة، استخدم الخدع القانونية، أغاظته رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل، القاضية هيلانا اسكندر بحرصها على استعادة حقوق الدولة اللبنانية من أموال سلامة، فطلب إخراجها من الملف.

امتعض من التحقيقات الأوروبية، ومن القاضية الفرنسية أودي بوروسي، فادعى خوفه وحرصه على سيادة لبنان، وقدّم دفوعًا شكلية حدد فيها أسلوب التعاطي القضائي الذي يرغب به ويناسبه. اعترض على حضور الوفود الأوروبية جلسات استجوابه وشدّد على رغبته هو وأعوانه على المثول أمام القضاء اللبناني فقط، ورفضهم المثول أمام القضاء الأوروبي.

في السياق نفسه، كانت الآلام الصحية لصاحب شركة “فوري”، رجا سلامة، وفق ما يشتهيه، ليتهرب مرات عدة من التحقيقات الأوروبية التي جرت داخل قصر عدل بيروت ومن جلسته الفرنسية. إقامة “مفتوحة” داخل مستشفى أوتيل ديو، إلتهابات حادة في الأمعاء، فقدان القدرة على التحرك والسفر، عمليات فُجائية، “تمييل” في القلب، عملية القلب المفتوح. أما المعجزات، فتأتي بعد انقضاء الجلسة “المشؤومة”، فيستعيد نشاطه الجسدي ويكمل حياته الطبيعية.

في المقلب الآخر، كانت ألاعيب الحاكم السابق مختلفة تمامًا عن شقيقه، فما إن يقترب من موعد جلساته القضائية حتى تعجز الأجهزة الأمنية عن إيجاده، يختفي تمامًا، يتبخّر في الهواء، ولا تُعرف عنه أي معلومة واضحة. وأطرف ما في الأمر، أن مجموعة من العناصر الأمنية التابعة لأمن الدولة هي المسؤولة عن مرافقته وتأمين حمايته الشخصية طوال فترة توليه حاكمية مصرف لبنان، إلا أن الأجهزة الأمنية هذه يتعذّر عليها تبليغه بموعد جلساته.

أمام هذه المعطيات، لم يصدر بحق سلامة أي إجراء قضائي جريء، إنما تقصدوا مراعاته “خوفًا من تفلت سعر صرف الدولار في السوق السوداء”، في حال قرر القضاء اللبناني توقيف سلامة. والحل الأنسب أن يحلّ ضيفًا عزيزًا لدى القضاء اللبناني ليبلغ بمذكرات التوقيف الدولية الصادرة بحقه، وليستمع لأقواله المكررة في جلسات استجواب هادئة. مماطلة ومراوغة طويلة، تخللها تأجيل جلسات الاستجواب بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن قصر عدل بيروت، وعدم تمكن الأجهزة الأمنية في العثور على سلامة.

خلافات مستمرة
في الداخل، انبعثت رائحة خلافات القضاة، فتجنبوا في البداية تنفيذ أمر الحجز على أملاكه، ولم تتمكن هيئة القضايا في وزارة العدل من تجميد حساباته المصرفية إلا بعد انتهاء ولايته.

وقع الملف بثقله على القضاة، فأربكهم، وانقسمت الآراء حوله، بين مؤيد ومعارض، وبدأ الصراع بين القاضية اسكندر وقاضي التحقيق الأول، شربل أبو سمرا، الذي اتهم سابقًا من قبل القاضية الفرنسية، أود بوروسي، بإظهار المحاباة مع سلامة خلال جلسات الاستجواب. إضافة إلى تركه رهن التحقيق وعدم توقيفه، وانتهى الخلاف برفع دعوى مخاصمة القضاة أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، المعطلة منذ عام ونصف العام.

فانتقل الملف نحو مرحلة معقدة أخرى، وانقسم القضاة أيضًا داخل الهيئة الاتهامية، التي من المفترض أن تستمع إلى سلامة في التاسع والعشرين من آب الجاري، لتتجه بعدها نحو إصدار مذكرة توقيف بحقه أو تحديد جلسة استجواب أخرى له، إن تمكنت الأجهزة الأمنية من العثور عليه وتبليغه.

باختصار، القضاء الأوروبي وصل إلى خواتيمه في التحقيقات، في حين أن التدخلات السياسية والخلافات القضائية سيطرت على ملف سلامة القضائي، فأجبرته على المرور في مسار طويل ومعقد، ببساطة لأن بعض القضاة “لم يقتنعوا” بجرائم سلامة المالية، ولم تتوفر أمامهم أي “أدلة” لتوقيفه.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها