محمد موسى

الخميس ١٠ تموز ٢٠٢٥ - 13:41

المصدر: صوت لبنان

أزمة البحر الأحمر: عندما تصبح البحار ممرات محفوفة بالتكلفة والخطر

منذ أواخر عام 2023، يشهد البحر الأحمر واحدة من أخطر موجات الاضطرابات في تاريخه الحديث، وذلك على خلفية تصاعد الهجمات على السفن التجارية في مضيق باب المندب وخليج عدن، في ظل التوترات الإقليمية المتزايدة، لا سيما مع استهداف الحوثيين لسفن شحن مرتبطة بالكيان الإسرائيلي أو الغرب عموما”، مما دفع شركات الشحن الكبرى إلى مراجعة حساباتها حول جدوى المرور عبر هذه المنطقة الحيوية. ومع هذه التطورات، ارتفعت أسعار التأمين البحري إلى مستويات غير مسبوقة، مما أدخل الاقتصاد العالمي والمنطقة في دوامة جديدة من التكاليف، مع توقعات قاتمة في حال استمرار الوضع الراهن دون تدخل فاعل.
قبل اندلاع التوترات، كانت رسوم التأمين على السفن العابرة للبحر الأحمر تتراوح بين 0.2% إلى 0.4% من قيمة السفينة في الرحلة الواحدة، وهي مستويات معتادة في ممرات التجارة المحفوفة بمخاطر طفيفة. إلا أن هذه النسبة قفزت إلى ما يقارب 1% خلال الأشهر الأخيرة، وهو ما يعني تضاعف التكلفة ثلاث إلى خمس مرات، بحسب ما نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز”. في التطبيق العملي، فإن سفينة شحن بقيمة 100 مليون دولار، والتي كانت تدفع حوالي 300 ألف دولار لتأمين رحلتها عبر هذا الممر، أصبحت الآن تدفع أكثر من مليون دولار، فقط لقاء المرور. هذه القفزة المفاجئة في التكلفة لا تتوقف عند التأمين فحسب، بل تمتد إلى تحويل وجهات الملاحة، حيث امتنعت أكثر من 2000 سفينة عن عبور قناة السويس واتجهت إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وهو ما أضاف أكثر من 3500 ميل بحري، ومدة تتراوح بين 10 إلى 14 يومًا إضافية على كل رحلة.
هذه التكاليف لا تدفعها فقط شركات الشحن، بل تنتقل مباشرة إلى المستهلكين حول العالم. ففي يناير 2024، سجلت تكلفة شحن الحاوية الواحدة من آسيا إلى أوروبا ارتفاعًا مذهلاً بنسبة 340%، حيث ارتفعت من نحو 700 دولار في نوفمبر 2023 إلى أكثر من 3100 دولار في بداية العام الجديد، وفق بيانات منصة “Jusda Global”. مؤشر Drewry العالمي للشحن البحري أكد هذه القفزة، مشيرًا إلى أن الأسعار على خط آسيا – أوروبا ارتفعت بنسبة 230%، فيما تجاوزت 270% على خطوط آسيا – الساحل الغربي للولايات المتحدة. هذه الزيادات لا يمكن فصلها عن مؤشر التضخم العالمي، حيث ساهمت بشكل مباشر في الضغط على أسعار السلع، لا سيما في أوروبا التي تعتمد على الواردات الآسيوية بشكل كبير.
قناة السويس، الشريان الملاحي الأهم في الشرق الأوسط وثالث مصدر للعملة الصعبة لمصر، شهدت تراجعًا كبيرًا في حركة السفن. فقد أظهرت بعض التقارير الرسمية أن عدد السفن المارة عبر القناة انخفض بنسبة تتراوح بين 60 إلى 75% في بعض الفترات خلال النصف الأول من عام 2024. وعلي فقد فقدت مصر ما يقرب من 7 مليارات دولار من عائدات القناة خلال عام واحد فقط، وهو ما يعادل حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. هذا التراجع لا يقتصر على الخسارة الاقتصادية المباشرة، بل يمتد إلى انخفاض العملة وتزايد أعباء الميزانية العامة، خاصة في ظل ارتفاع أسعار السلع الأساسية المستوردة.
أما على مستوى سلاسل الإمداد العالمية، فقد أدت التوترات إلى تعطيل تدفقات السلع، وتأخير وصول الحاويات، وهو ما أثر على شركات تصنيع كبرى مثل “تسلا” و”فولفو”، التي اضطرت إلى تقليص الإنتاج مؤقتًا بسبب عدم وصول مكونات حيوية. هذه الأزمة أعادت إلى الأذهان هشاشة نظام “في الوقت المحدد” (Just-In-Time) الذي تتبعه كثير من الشركات، حيث يعتمد على تدفق مستمر وسريع للسلع دون مخزون كبير، وهو ما يجعل أي اضطراب بحري ينعكس بشكل فوري على خطوط الإنتاج.
وفي الجانب الآخر، انعكست الأزمة بشكل مباشر على أسواق الطاقة. بعض ناقلات النفط بدأت تتجنب المرور عبر البحر الأحمر، ما تسبب في تأخير الإمدادات وارتفاع الأسعار. سجلت أسعار النفط الخام من نوع برنت مستويات تجاوزت 78 دولارًا للبرميل في منتصف عام 2024، وسط توقعات من مؤسسات مالية كبرى بأن السعر قد يرتفع إلى 90 أو حتى 110 دولارات في حال استمر التهديد في مضيق هرمز. هذه التوترات دفعت البنوك المركزية، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، إلى تأجيل خطط خفض أسعار الفائدة، تخوفًا من موجة تضخم إضافية.
الشرق الأوسط لم يكن بمعزل عن هذه الانعكاسات، بل كان في صلب الأزمة، سواء كمصدر للنفط والغاز، أو كممر رئيسي للتجارة العالمية. إلى جانب مصر، تأثرت دول الخليج العربي التي تعتمد بشكل أساسي على التصدير البحري لمنتجات الطاقة والبتروكيماويات، كما واجهت الأسواق المحلية ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار بعض السلع المستوردة، مع تزايد تكلفة الشحن والتأمين.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن السيناريوهات المحتملة تنقسم إلى ثلاثة مسارات رئيسية. الأول، وهو الأكثر خطورة، يتمثل في استمرار الأزمة حتى نهاية عام 2025، وهو ما يعني بقاء أسعار التأمين والشحن عند مستوياتها المرتفعة، بل وربما زيادتها، مع استمرار تعطيل قناة السويس، وتسجيل مصر لخسائر بالمليارات سنويًا. أما السيناريو الثاني، فيفترض تهدئة تدريجية تبدأ في نهاية2025، ما يسمح بعودة تدريجية للسفن عبر البحر الأحمر، وانخفاض في رسوم التأمين إلى ما بين 0.5 إلى 0.7%، وتحسن نسبي في إيرادات قناة السويس. السيناريو الثالث، وهو الأفضل، يفترض انفراجًا سريعًا عبر تسوية دبلوماسية أو تفاهمات دولية، ما يعيد الاستقرار إلى المنطقة ويخفّض تكلفة التأمين إلى مستويات ما قبل الأزمة.
في كل الأحوال، قد يتجه الغرب الى ما يقول انه “يبدو الحاجة ملحة إلى تحرك دولي جماعي لضمان أمن الممرات البحرية، خصوصًا مضيق باب المندب وقناة السويس.” وعليه عودة التحالفات الأمنية، مثل “عملية حارس الازدهار” التي قادتها الولايات المتحدة بمشاركة بعض الدول الغربية، والتي تمثل لهذه الدول خطوة أولى نحو تأمين الملاحة. لكن الأهم من ذلك هو ضرورة التفكير في بدائل استراتيجية للنقل البحري، سواء عبر تطوير البنية التحتية للسكك الحديدية الإقليمية، أو عبر شراكات لوجستية جديدة تقلّل الاعتماد على مسار واحد.
وفي النهاية، فإن الأزمة الحالية تضع العالم أمام اختبار حقيقي لمرونة التجارة الدولية. لقد أصبح التأمين البحري في البحر الأحمر مؤشرًا جديدًا على التوترات الجيوسياسية، لا مجرد إجراء احترازي. ومع كل يوم تتأخر فيه الحلول، ترتفع التكاليف، وتتفاقم الخسائر، ويقترب العالم أكثر من أزمة تجارية جديدة تهدد النمو الاقتصادي والاستقرار الإقليمي في آنٍ واحد، فهل مع الحديث من الدوحة عن انفراج الحلول في غزة يهدي الأسواق الاستقرار……….. الكل يعاني!!!!!

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها