نبيل سمعان

السبت ١١ أيار ٢٠٢٤ - 08:45

المصدر: صوت لبنان

القلم العذب لجريدة “الخواطر” في المكسيك

بعد أربعة أعوام من الجهد والمثابرة (شباط ٢٠٢٠- آذار٢٠٢٤)، إستطعنا أن نُنقِذ من منشورات جريدة الخواطر المهجرية، ما يربو على ٣٣٠ عدداً من النسيان، وجمع المُفيد منها في هذا الكتاب المرجع، الذي صدرَ بالإسبانية في احتفالٍ أقيم في النادي اللبناني في المكسيك في ١٢ آذار الماضي، وأتى تحت إدارة الدكتورة في التاريخ، ماريا إيزابيل غرانيين دو حرب، ومُشاركتي الحثيثة في الإعداد لهُ، من خلال بحثي وانتقائي للنصوص والقصائد وترجمتها من العريية، فضلاً عن استكمال المعلومات الواردة من خلال متابعة بحثنا في المكتبات والمراجع اللبنانية، وبخاصةٍ مع الباحث في تاريخ بعبدا الاستاذ عبدو ابي نادر، مشكوراً.
“الخواطر”، أصدرها في المكسيك الشاعر والصحافي البعبداوي يوسف أنطون صالح الحلو، على ثلاث حقباتٍ؛ الأولى ١٩٠٩-١٩١٠، الثانية ١٩١٧-١٩١٨، والثالثة ١٩٢٤- ١٩٣٥، واعتُبِرَت في حينها واحدة من أهم الجرائد اللبنانية في الاغتراب، وقد لُقِب يوسف صالح الحلو ب “مكرزل المكسيك” تيّمُناً بصديقه وزميله عميد صحافة المهجر نعوم مكرزل ناشر جريدة “الهُدى” النيويوركية.
“القلم العذب (الحلو) لجريدة الخواطر”، الذي يقع في ٦٧٢ صفحة، يكتسب أهميّة مُضاعفة، كونهُ عملاً استثنائياً قيِّماً (سمح به مُتسع الوقت مع جائحة كورونا)، وهو يطال عدة أبعاد بحثيّة، أختصِرُها بالآتي:
من حيث مواضيعه المختلفة وصيغته الكتابية؛ فهو يجمع بين التاريخ والمجتمع والشعر والسرد القصصي، ويُلِمُ بتفاصيل الحيثيات اليومية وبمعلومات تُنشرُ لأول مرة. لقد شاءت الكاتبة التوجه الى القارىء بصيغتين: صيغتها الأدبية وصيغة الكلام السردي المباشر لشخصية صاجب الخواطر، وبهذا تؤكد على اهدائها الكتاب الى الأموات الذين ما زالوا أحياءً بكلامهم بيننا. كما نرى ان “القلم العذب للخواطر” يؤرِخُ لحقبة المهاجرين الأوائل، كما نتعرّف على أن يوسف صالح الحلو كان إنساناً مُلتزماً ومؤمناً بالواجب، فنسمعه وهو يقول: “على كُلٍ منّا السعي لتسجيل عملٍ مجيد، كيّ يكون ممتناً بأنهُ أكمل واجبه تجاه نفسه وتجاه الإنسانية جمعاء”
من حيث تعمُّقه في دراسة جذور عائلة الحلو منذ ما قبل مجيئهم الى بعبدا، ومن ثم وصلهم بالمتحدرين من المهاجر يوسف صالح الحلو وزوجته الزحلاوية وديعة عطا، بعد ان هاجروا سنة ١٨٩٨ الى المكسيك، والذين ناهزوا مع صدور هذا الكتاب ٣٦٤ فرداً؛ ما يُشكّلُ نموذجا علمياً يجدرُ الاقتداء به عند دراسة تاريخ وأصول أيٍّ من العائلات اللبنانية في الانتشار. مع الإشارة الى أن العائلات التي صادفنا وجودها في مختلف مقاطعات المكسيك يربو بالإسم عن ١٥٠ عائلة، في حقبةٍ ناهزَ فيها تعداد ابناء الجالية العشرين ألفاً.
من حيث تسليط الضوء والتعريف بشخصية أدبية لبنانية مرموقة، غير معروفة في وطنها الأم، ساهمت مع معاصريها في إدخال اللغة العربية الى الأميركيتين، وكانت من قادة الرأي الفخورين دوماً بإنجازات أبناء لبنان في الاغتراب: إنهُ الشاعر والصحافي يوسف أنطون صالح الحلو؛ كان رسول علمٍ وعاش القيّم الاخلاقية والوطنية، وكان جسراً قوّى روابط الإرث الثقافي والتواصل الذي لم ينقطع يوماً مع معاصريه أمثال شبلي بك ملاط، ووالد شحرور الوادي نابغة الشعر العامي الخوري لويس فرح الفغالي، إضافةً الى حنينه وتوقه الى استقلال لبنان بحججٍ ثابتة وإرادة لا تلين، فيقول:” ليكن الصديقُ على ثقةٍ بأن الحلو ما زال مُرّاً في حلوق أعداء لبنان، وبأنهُ لن يستعظم تضحيةً في سبيل جبل الأرز الشامخ، منبِتُ الجبابرة والنوابغ”.
من حيث التأكيد، بالوقائع والأحداث، على أهمية ورفعة شأن الجالية اللبنانية، إن من حيث جمعياتها أو مرجعية غرفة التجارة اللبنانية، أو شخصياتها البارزة بالإسم (…خليل سليم، يعقوب سمعان، أنطوان لطيف، فيليب شقير، عبد الأحد الخوري) وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية بكبار القوم وسلطات المجتمع المكسيكي.
من حيث إنعكاس الواقع السياسي، أكان في عهد المتصرفية او الانتداب الفرنسي، في صحافة وأدب وشعر المهجر. بحيث نرى أن الكاتب كان على تواصل لم ينقطع وله نظرته المستقبلية واقتراحاته لحلول لآفات لبنان السياسية، ولو ان القارىء يمكنه ان يستنتج في آنٍ، ان لبنان لم يتغيّرعلى مدى قرنٍ كامل من الزمن.
من حيث الصعوبات التي واجهتُها في اختبار البحث والترجمة: بدايةً لم يكن من السهل أبداً جمع هذا الكَّم من أعداد الجريدة التي صدرت منذ قرن من الزمن والتي كانت مُبعثرة في أنحاءٍ شتى، ومن ثم نفض الغبار عنها والمبادرة الى قراءةٍ هادفة، وانتقاء المضمون والقيام بترجمة النصوص والأبيات الشعرية من العربية الى الاسبانية: صفحات الجريدة كانت تصلني مصوّرة سكانر بالمقلوب! بعض النصوص كانت شبه ممحاة وصعبة القراءة، كما ان طبع الجريدة لم يلحظ وجود فاصلة او نقطة او تحريك…، وكانت تورد كلمات من القاموس القديم “الرصيف التي تعني الزميل” على سبيل المثال، ناهيك بفقدان القافية وموسيقية الابيات عند ترجمة القصائد، ما حدا بنا الى تكليف شاعر مكسيكي لإعادة صياغتها دون الابتعاد عن روحية الكاتب…
يجدر السؤال: لماذا لم يَعُد يوماً صاحب الخواطر، هذا الوطني الأصيل، الى وطنه، ولم يوصي بنقل رفاته الى مسقط رأسِه بعبدا؟… هو نفسهُ أجاب على هذا السؤال، في أبياتٍ أخيرة خطّها على قصاصة ورق وأودعها تحت المخدة وهو في ساعاته الأخيرة على فراش الموت، قرأها الأقربون منهُ بعد مماته:
“حييتُ وما خشيت الموت يوماً وقد أكملتُ غايات الحياة
وكم لي في حياتي من صديقٍ فهل من ذاكرٍ بعد الممات؟
وكُنتُ أوّدُ في لبنان مثوىً ولكن لم أُطِق هجر البنات
وأنطونٍ وأحفادٍ صغارٍ وآباءٍ لهم غُرُّ الصفاتِ
إذا زاروا ضريحي كُلَّ عامٍ لهم يهتزُ من طربِ رفاتي”.

وختاماً، مع توزيع هذا الكتاب الصادر بالاسبانية على المكتبات العامة وبعض المرجعيات الفكرية والثقافية والاجتماعية في لبنان، تكثر الطلبات الداعية الى ضرورة إصداره بالعربية، كي تُلاقي آثار إبن بعبدا البار الصدى الذي يستحق في وطنه الأم، وتفادي نسيانها، لكي تبقى إرثاً للأجيال القادمة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها