الخميس ٢٣ نيسان ٢٠٢٠ - 18:01

المصدر: المدن

المقايضة السياسية الأخيرة قبل الانفجار

باعتبار السياسة “فن الممكن”، أي أن لديها وظيفة مهمة تتمثّل في استنباط الحلول والتنازلات المتبادلة في السياسة بين الأفرقاء المتنازعين، بهدف عدم الانزلاق في جولات عنف، أو التورط في الحروب.. يهمّني أن أتطرق إلى مسألة مقايضة في السياسة مع “منظومة الحكم” الحالية في لبنان، مذكّراً بأن السلطة اللبنانية لم تنهب خلال ثلاثين عاماً من الحكم ثروات لبنان فحسب، بل أخذت في طريقها، عن سابق تصور وتصميم، كل ما يتصل بالسياسة من قريب وبعيد، أي كل ما يمت بصلة إلى “الشأن العام”، ودور المواطنين اللبنانيين في تحديد مشاركتهم في فضاء هذا “الشأن العام”.

ينبغي أن ألفت أولاً إلى أن ما حصل بعد ليل 17 تشرين 2019، أيقظ السلطة من غيبوبة عميقة. إذ أدركت أن ما بعد هذا التاريخ سيكون خطيراً ومخيفاً، وقد يطيح بكل شيء. لقد شعرتْ بالخطر الذي يحدق بها وبمن يحركها، وعرفت أن ثورة 17 تشرين ليست حركة احتجاجية أو مطلبية هدفها تصحيح سلوك أهل الحكم أو رفع البطاقة الصفراء في وجوههم. وليست انتفاضة هدفها “تأديب” السلطة السياسية بعد سنوات من الإفقار والمحاصصة والنهب والفساد والحرمان.

التقاط الأنفاس
راحت السلطة تحسب حساباً جديداً لما يجري. في البداية، تعاملت مع الثورة بتسميتها “حراكاً”، للانتقاص من قدرها وللحد من شأنها، ولتفخيخ كل حركة شعبية تستقوي على أزلام السلطة.

لا بد من التذكير هنا أن هذا الجو الشعبي غيّر المسار السياسي للبلاد. وعليه، فقد أدركت “منظومة الحكم” أن الصراع مع الثورة هو صراع على السلطة وعلى من يحكم لبنان. هكذا فسرت كل الحملات التخويفية، التي بدأت باعتقال الناشطين بالتزامن مع جولات من العنف الأهوج، مقروناً بأساليب وطرق متنوعة، من ضرب، وسحل، ورمي قنابل مسيلة للدموع واستعمال لكل ما هو متاح لفض الساحات وإسكات الناس وإنهاء الثورة.

يجب الاعتراف أن هذه ”المنظومة” أرادت أن تلتقط أنفاسها بعدما انهكتها ثورة 17 تشرين، فاستقالت حكومة سعد الحريري لتبدأ مواجهة من نوع آخر مع الثورة، من خلال محاولة التسويق لحكومة حسان دياب، التي وصفها أهل الحكم بأنها تتألف من وجوه غير استفزازية، اختصاصية ومستقلة، “تشبه المحتجين”، في حين أنها في الحقيقة حكومة مواجهة في السياسة، وحكومة الانقضاض على الثورة. أرادوا أن يوهموا الثوار أن هذه الحكومة بشكلها “الناعم”، إذا صح التعبير، هي حكومة “الهدنة” والمصالحة مع الثورة، فيما هي تستبطن العكس.

نهاية المئة يوم
لقد فات “المنظومة” أن مفهوم الثورة للهدنة كان ولا يزال تأليف حكومة طوارئ مستقلة عن السلطة، تعيد الثقة وتطمئن الأسواق المالية، وتباشر حملة إصلاحات قضائية ومالية وانتخابية (من خلال التوصل إلى إقرار قانون انتخابي عادل).

في هذا المعنى، يتأكد لنا اليوم، وبالممارسة، بعد مرور أكثر من مئة يوم على تأليف الحكومة الحالية، أنها ليست فقط حكومة حماية لمصالح “المنظومة” بل هي أكثر من ذلك بكثير. إنها حكومة التمسك بالسلطة، والبقاء فيها، والقتال في سبيل الاحتفاظ بها، بكل الأثمان، وإنْ لم يبق شيء لتورّثه إلى أحد.

أما فيما يخص “المقايضة”، التي أشرنا إليها بداية، فإذا كان لا بد منها في السياسة بين الثورة و”منظومة الحكم”، فلتكن المقايضة على الشكل الآتي: استقالة حكومة حسان دياب فوراً، وتأليف حكومة مستقلين عن كل “المنظومة”، لإدارة الانهيار بأقل كلفة ممكنة، والتحضير للانتخابات النيابية بعد سنتين (أي في موعدها الدستوري)، بعد إقرار قانون جديد.

لماذا نطرح هذه النقاط اليوم؟
أولاً، لأن حكومة دياب هي حكومة سياسية ومسيسة إلى اقصى الحدود. أي إنها حكومة “حزب الله” وفريق رئيس الجمهورية. وهي، لن تستطيع، بطبيعتها السياسية، أن تستقطب لا المساعدات ولا رؤوس الأموال العربية والغربية، فيما لبنان وشعبه واقعان في حفرة الجوع والفقر، والجميع بحاجة ماسة إلى “تنفيس” الوضع الاقتصادي، بغية إعادة تشكيله لاحقاً على أسس جديدة، تأخذ في الاعتبار أولاً وأخيراً العدالة الاجتماعية.

ثانياً، لأن حكومة حسان دياب تفتقر إلى الثقة، ثقة اللبنانيين تحديداً، وثقة العالم كله، الذي رأى كيف كان المشهد بتاريخ 11 شباط 2010، أو بما عرف بـ”صفقة الثقة”، التي حصلت عليها الحكومة بعدما دخل النواب إلى المجلس خلسة، ومن مداخل سرية. لقد تحققت “صفقة الثقة” بعدما تحول محيط مجلس النواب إلى ثكنة عسكرية، تحميها جدران اسمنتية وميليشياويون ورجال أمن بالآلاف، لم يترددوا في استعمال كل وسائل العنف لإمرار الجلسة بالقوة العارية المفروضة قسراً على الناس.

ثالثاً، لأن حكومة حسان دياب لم تكن يوما حكومة “فك اشتباك” مع الثوار، وإن كان معظم أعضائها الذين عيّنتهم “منظومة الحكم” جدداً ومن التكنوقراط. لقد بات معروفاً أن اختيار هذه الوجوه “الناعمة” كان يهدف إلى “مواجهة” ثورة 17 تشرين بأدوات مختلفة، تساعد على الانقضاض عليها، وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل ذاك التريخ، وكأن شيئاً لم يكن.

هذه هي المحاولات الأخيرة في السياسة. فهل يوجد عقلاء من ضمن فريق “المنظومة” للبدء بهذه المقايضة المشار إليها قبل فوات الأوان، أم أن الإصرار على تدمير لبنان على رؤوس جميع اللبنانيين أقوى من أي اعتبار آخر؟

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها