play icon pause icon

منى فياض

الأثنين ٣٠ حزيران ٢٠٢٥ - 10:50

المصدر: صوت لبنان

حين يدق الخوف باب اسرائيل وإيران

حكاية “الرجل الذي ذهب ليتعلم الخوف”، هي إحدى الحكايات الشعبية التي جمعها الأخوان غريم، وتُعد من أغرب القصص في مجموعتهما.
تقول الحكاية أن شابا بسيطا كان يعيش مع والده وأخيه، لكنه لم يكن يعرف معنى “الخوف”. وكان يقول دائماً: ” لو أنني فقط أتعلم ما هو الخوف!”. لم يفهم لماذا يخاف الناس من الظلام أو من الأشباح. وكان الجميع يعتبره غريباً لأنه يفتقر لهذا الشعور “الطبيعي”.
قرر في يوم من الأيام أن يرحل عن البيت بحثاً عن مكان يمكن أن يخيفه، لكي “يتعلم ما هو الخوف”. وأثناء رحلته مرّ بعدد من التجارب المخيفة:
نام في مقابر مع جثث. واجه أشباحاً وأرواحاً في قلاع مسكونة. تعامل مع رؤوس تتدحرج على الدرج، وهياكل عظمية ترقص حوله.
لكن في كل مرة، كان يتعامل مع المواقف وكأنها أمور عادية، ولم يشعر بالخوف أبداً، بل كان غالباً يتعجب من تصرفات الأشباح ويشعر بالملل أو الضيق لأن “الخوف” لم يأتِ بعد.
وفي النهاية، بعد سلسلة مغامرات، يتمكن من الزواج من أميرة (لأنه نجح في النوم في قصر مسكون لمدة ثلاث ليالٍ بنجاح، وهي مهمة فشل فيها الجميع من قبله). لكن حتى بعد الزواج، لا يزال يقول: “لو أنني فقط أعرف ما هو الخوف”.
تقوم زوجته أخيراً بخدعة: تملأ دلواً من الماء وتضع فيه سمكًا بارداً وتسكبه عليه وهو نائم. فيستيقظ فجأة مذعوراً ويصرخ: “الآن… الآن أنا أعلم ما هو الخوف!”.
ماذا تقول لنا القصة؟
ان الإنسان يبحث عن المشاعر التي تُكوّن تجربته الإنسانية الاولى، وبعض المشاعر لا يمكن تعلمها بالعقل، بل يجب أن تُختبر بوسائل غير متوقعة.
الخوف ليس في الأشياء نفسها، بل في طريقة رؤيتنا لها.
“الخوف” هنا يرمز:
للوعي بوجود الشر، الفناء، العدم والمجهول.
الخوف هو تلك الهزة التي تُعلّم الإنسان أنه ليس مركز الكون، بل كائن هش في عالم غير مضمون.
البحث عن “الخوف” هو بحث عن المعنى الوجودي.
فالقلعة المسكونة، ترمز لذاكرة المجتمع أو تاريخ البشرية، المليء بالموتى والأشباح والهياكل العظمية. أو ترمز إلى اللاوعي الجمعي (يونغ): المخاوف المكبوتة، الرموز الأسطورية، بقايا التجارب القديمة الموروثة عبر الأجيال.
لكن هذا الشاب لا يخاف من كل هذا، لم يتلق بعد الشيفرة الرمزية التي تُمكّنه من فهم ما يرى. إنه يرى الأشباح لكن لا يفهم رمزية الخوف منها.
لكن الزواج من الأميرة عنى النضج الاجتماعي، القبول في المجتمع. لكن المفارقة هنا أن البطل لا يزال يشعر بالنقص رغم أنه “نجح” اجتماعياً!
هذا يُشير إلى مفارقة حقيقية في حياة البشر: أن النجاح الظاهري لا يعني بالضرورة اكتمال التجربة الداخلية.
السمك البارد: هو لحظة انبثاق الوعي من الجسد، ورمز لصدمته، للعودة إلى الخبرة الحسية الخام التي قد تكون أكثر صدقاً.
فهل تقول الحكاية إننا لا نتعلم الخوف من الرؤوس الطائرة والهياكل العظمية، بل من أشياء صغيرة جداً، ملموسة جداً، يومية جداً – حين تضربنا مباشرة في لحمنا وجلدنا؟

إذا أسقطنا رمزية قصة “الرجل الذي ذهب ليتعلم الخوف” على إسرائيل وإيران، نجدهما يتحولان من كيانين بنيا على فكرة القوة المطلقة والثقة المفرطة والقدرة على احتواء المخاطر، الى كيانين بدآ الآن فقط يشعران به فعلياً، بدل تصديره.
إسرائيل: منذ احتلالها، اعتمدت على التفوق العسكري، الاستخبارات، الردع، والضربات الاستباقية. مما جعلها تعيش في وهم السيطرة التامة. بدت كمن لا يعرف الخوف، بل يزرعه في قلوب الآخرين.
إيران: منذ الثورة الإسلامية، ربطت بقاءها بفكرة التحدي والمقاومة، وخاضت حرباً طويلة مع صدام حسين، وخرجت بذهنيّة المنتصر. راكمت أدوات الحرب غير التقليدية (الميليشيات، الحرب بالوكالة، الصواريخ، إلخ)، وعاشت في شعور دائم بالقدرة على الصمود مهما كان الثمن.
كلاهما، بطريقة مختلفة، تعامل مع الخوف كشيء يخص “الآخرين”.
كما في الحكاية، دخلت إسرائيل وإيران قلاعاً ملأى بالأشباح: حروب، اغتيالات، عمليات، حصارات، تهديدات نووية… ولكنها ليست خسائر “وجودية”. كان الخوف دوماً عند الأطراف الأخرى.
لم يشعروا بالخوف لأنهم لم يتعرضوا له كما تعرّض له الآخرون. لقد مرّوا وسط الأهوال، لكن كمن يمر عبرها ببرودة واستخفاف. القوة أعمتهم عن الوعي بالهشاشة.
7 أكتوبر: نقطة الانكسار الرمزي في إسرائيل، إنها دلو الماء البارد مع السمك:
لأول مرة منذ عقود، بدت إسرائيل كما لو أنها تقول: “الآن… الآن نعرف ما هو الخوف.”
الخوف جاء من تفاصيل الحياة المباشرة: أن يُقتل الأطفال، أن تُفقد السيطرة، أن يفشل الجيش.

أما إيران فعرفت بعد قصف أصفهان: بداية ارتجاج داخلي. فهي اعتقدت، بعد اغتيال سليماني وحرب أوكرانيا وتوسع محورها، أنها في موقع قوة محصنة. لكن القصف الإسرائيلي لمجمع نووي في أصفهان – رغم ضآلة الأثر العسكري – فتح شقاً في جدار الغرور.
خاصة أنه جرى في قلبها، دون ردع، وكأنها أصبحت مكشوفة. لحظة إسرائيلية صغيرة داخل إيران. ليست لحظة “أنا خائف”، لكنها لحظة “هل يمكن أن أُمسّ أنا أيضاً؟ وهي بداية التحول الوجودي.
الخوف نعمة وفق الحكاية، هو بداية التحوّل الإنساني. لا ينضج الكيان – دولةً أو فرداً – قبل أن يعترف بأنه قابل للتهشّم.
فهل سيدفعهما الخوف للتوقف عن تصدير الحرب وكأنها رياضة. ويدفع إيران لإعادة التفكير في تصدير الثورة وكأنها قَدَر لا يُمسّ.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها