هلا الخطيب كريّم

الأربعاء ٢٥ حزيران ٢٠٢٥ - 13:02

المصدر: independent عربية

موسيقى الدمار… أو الرقص على قارعة الحرب

اعتاد أهلنا دوماً، في محاولة لحماية طفولتنا المسحوقة بين أنياب الحروب، أن يرفعوا صوت الراديو بالموسيقى حيناً أو المسلسلات الدرامية على التلفزيون ليقولوا لنا إن الدنيا بخير وأننا لسنا تحت أقدام الخطر، وطالما غنى الناس في الملاجئ ولعبوا ورق الشدة وغيرها من الألعاب التي تصلح مع ضوء الشمعة أو اللوكس، أي قنديل الغاز أو الكاز، في محاولة لتمرير الوقت العصيب وإكمال الحياة على الرصيف الذي يُظن أنه آمن، أو بالأحرى في آلية دفاعية عفوية طالما أننا على قيد الحياة.

تغير الزمن ولكن يبدو أن هذه الآلية بنيت في النفس البشرية التي تتوق دائماً للحياة، ففي الزمن الذي تسابق فيه الصواريخ سرعة الإنترنت وتتنافس فيه المسيرات مع قصص “الستوري”، خرجت من قلب ليل منطقنا الملتهبة مقاطع فيديو لم تكن ضمن خطط وزارات الدفاع ولا تحليلات مراكز الدراسات، بل كانت من صنع مواطنين قرروا أن السهر تحت السماء الملتهبة ليس فقط ممكناً بل يستحق التوثيق أيضاً.

الباليستي كألعاب نارية

ليال عامرة على وقع الباليستي، و”سهرات نار” حقيقية وليست مجازاً، واحتفالات في الأردن وسوريا ولبنان والضفة، حيث يظهر شباب وشابات لا يهربون من الصاروخ، بل يرفعون الهاتف ليصوروا، بعضهم يضحك وبعضهم يرقص وبعضهم يحتفل بصورة تتحدى الرعب، فهل فقد الناس إحساسهم بالخطر أم كسبوا مناعة نفسية ضد القصف؟ أم أنها رسالة سياسية بطريقتهم الخاصة تقول إنهم لن يخافوا ولن يتوقفوا عن الحياة؟

هنا تطل الأسئلة الثقيلة برأسها، فهل تحولت الفجيعة إلى خلفية بصرية للهواتف؟ وهل المشهد نوع من الانهيار النفسي الجماعي؟ أم هو ذروة التحدي الشعبي لآلة الحرب؟

 

كان بعضهم في لبنان ينتظر إنذارات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي وهو ينشر على حسابه الخرائط مؤطراً بالأحمر المباني التي ستستهدف، فيتوجهون وينتظرون الضربة لتصويرها وهم يصيحون “الله أكبر” وكأنهم هم من قام بالإنجاز، ثم ينشروا صورهم لاحقاً على مواقع التواصل أو يبيعونها، ولقد كانت الظاهرة مثيرة للجدل والقلق في آن، فالشباب يعرضون أنفسهم لخطر الموت في مقابل هذه المشاركة في الحدث، عدا عن الإعجابات التي قد يحصلون عليها على حساباتهم في مواقع التواصل، أو البدل المالي إذا تسنى لهم بيع صورهم وفيديوهاتهم.

والأمر ليس حديثاً، فإبان الحرب الأهلية خلال سبعينات القرن الماضي كان اللبنانيون يفاخرون بمعرفتهم بأنواع القذائف والصواريخ من سماع صوتها أو رؤيتها في سماء بلادهم، حتى إن الذاكرة الجمعية الثقافية والفنية لدى معظم الأحزاب تزخر بأسماء أسلحة من الـ “كلاشنكوف” والـ “إم-16” والـ “سيمينوف” وصولاً إلى الـ “كاتيوشا” وسواها، وقد ذكرت في الأغاني والمسرحيات والأعمال الفنية الأخرى كالرسم والنحت.

الـ “رووف توب” للمشاهدة

على المنوال نفسه يراقب اللبنانيون الصواريخ الآتية من إيران باتجاه إسرائيل أو تلك المعترضة من القبة الحديدية، يصورونها وينشرون صورها، ومن على سطوح وشرفات الأبنية في بيروت بات السهر مع الأركيلة والمشاهدة طقساً ليلياً استمر طوال أيام الحرب الأخيرة الـ 12 مع ما تستوجبه السهرة من مزات ومشروبات ومشاهدة لما سماه كثر ألعاباً نارية تزين السماء، وليس هذا وحسب، فالسهر على مطاعم الـ “رووف توب” أصبح أمراً فائق الأهمية لدرجة أن الكوميدي اللبناني نعيم حلاوي أنشأ على أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي فاتورة مطعم تحوي في نهايتها رسوم الترفيه، وهي عبارة عن مشاهدة حية للصواريخ، وقد انتشرت على أنها حقيقية بصورة فيروسية، ليظهر لاحقاً أنها مجرد نكتة وضعها نعيم على حسابه، مع منشورات أخرى تظهر أن المطاعم التي لديها “رووف توب” كلها محجوزة لمشاهدة الصواريخ.

كل هذا بعد أن انتشر فيديو لعازف الساكسفون آلان عتيق المعروف بـ O Alan في مطعم على السطوح The NEST في دير ياسين المطل على خليج جونيه، حيث أكمل العزف والناس يرقصون بينما تظهر في الخلفية سماء مليئة بالصواريخ.

وإدغار برمانا ممثل عن The NEST الذي صور الفيديو أو المشهد الذي سيخلد في ذاكرة اللبنانيين والعالم، عندما مرت الصواريخ الإيرانية في السماء فيما الموسيقى لا تزال تعزف، وقال لـ “اندبندنت عربية” إنها “كانت ليلة طبيعية، المطعم ممتلئ كالمعتاد والموسيقى تعلو على السطح والناس تستمتع بأمسيتها، وفجأة بدأت الصواريخ تمر من فوقنا وأصابت الناس موجة من الذعر وتجمدت اللحظة، لكن بدلاً من الاستسلام للخوف قررنا أن نواجهه بالموسيقى”.

ويتابع “رفعنا صوت الموسيقى ثم صعد عازف الساكسفون إلى المنصة وأطلق أنغامه في السماء التي عبرتها الصواريخ وكأن الموسيقى اختارت أن ترد بطريقتها، وشيئاً فشيئاً تحول التوتر إلى تصفيق والخوف إلى ابتسامات، وهذه هي قوة الموسيقى في تحويل الرعب إلى مساحة أمل، إذ بدت الصواريخ وكأنها ألعاب نارية”.

برمانا الذي بدا متأثراً بتفاعل الناس أشار إلى أن الفيديو الذي التقطه لتلك اللحظة انتشر كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي، ويقول “تلقينا اتصالات من BBC و CNNوGulf news و Mail Daily وجاء التلفزيون الروسي إلى المطعم ليل السبت، والكل تساءل هل فعلاً الناس كانت تسهر وتعزف بينما الصواريخ تمر فوق رؤوسهم؟ والجواب نعم، ليس لأننا نستخف بما يحدث بل لأننا كشعب تعب من الحرب فصار يبحث عن الحياة في قلب الخطر”، مضيفاً “نحن لا نمثل طرفاً سياسياً ولا نحتفل بالحرب، لكننا أصحاب أعمال ومطاعم وعشنا خسائر في جائحة كورونا وركوداً اقتصادياً قاسياً ولم يعد أمامنا سوى أن نصنع الفرح من رماد الخوف، وأن نرسل رسالة سلام تقول إن الموسيقى والفرح لا حدود لهما”.

بمرافقة الصواريخ

عازف الساكسفون اللبناني آلان عتيق (O Alan) الذي يعزف أنماطاً موسيقية متعددة من الجاز إلى الإلكترونيك، والذي يسعى من خلال الموسيقى إلى خلق لحظات حقيقية حسية ومشتركة بينه وبين الناس، بحسب تعبيره، يقول لـ “اندبندنت عربية” إنه في لحظة مرور الصواريخ “كإنسان كنت في لحظة ذهول، وشعور غريب بين الصدمة وعدم التصديق، لكن الوقت لم يكن يسمح بالتفكير، وكفنان لا أعرف كيف، ولكن جسمي اختار أن يكمل العزف، وقد يكون رد فعل بلا وعي، فالموسيقى في تلك اللحظة كانت الطريقة الوحيدة قد أستعيد بها أنفاسي، ويبدو أن الغريزة الفنية أسرع من الخوف، وقد تكون هي التي ساعدتني في أن أواجه الخوف من دون أن أهرب”.

وأضاف أن الموسيقى كانت دائماً ملاذاً في حياته، “كم في تلك اللحظة شعرت بأنها فعل مقاومة، ليس فقط للهرب من خلالها وإنما للبقاء والتمسك بالحياة، وهي تعطينا حافزاً للتمسك بالبقاء عندما يكون ما حولنا آيلاً للتفكك، إذ تصبح الموسيقى لغة ثانية للجسد والعقل والقلب كي لا نستسلم”.

ويشير آلان إلى أن تلك اللحظة غيرته وجعلته يفهم أكثر أن الفن ليس ترفاً وإنما ضرورة، “أن تكون عازفاً في تلك الظروف ليس مجرد مسؤولية فنية وإنما مسؤولية إنسانية آلان، فقد لا أستطيع أن أغير الواقع لكنني أستطيع أن أترك أثراً أو لحظة سلام صغيرة في بحر الفوضى”.

“بوم بوم” تل أبيب

انتشرت أغنية Boom Boom Boom Tel Aviv بألحانها السريعة بينما صور الصواريخ الإيرانية تضيء ليل تل أبيب، واجتاحت الفضاء الرقمي كما لو كانت صاروخاً باليستياً مبرمجاً على الذاكرة الجماعية، وهي من إنتاج دي جي خاماس، وكتابة جندي مارينز سابق اسمه لوكاس كيج مناهض للحرب، جاءت الأغنية كرد على حفلات الإنكار الجماعي التي امتهنتها بعض الروايات الرسمية.

الأغنية تحولت من مجرد “ترند” إلى شكل من أشكال المقاومة النفسية، إذ يعاد تدوير الخوف والخذلان والإحباط في ألحان تعطي الفرد سلطة المشاركة الرمزية في الحرب ولو بـ “لايك”، وهذا يذكر بما يقوله علماء النفس عن التفريغ الانفعالي الموسيقي Musical Catharsis حين يتحول القلق إلى غناء والغضب إلى “ترند” عالمي، ولطالما تغلب كُثر على مصائبهم أو خوفهم أو عقدهم بالسخرية منها، ويظهر الكوميديون وهم يسخرون من أنفسهم وأشكالهم وتصرفاتهم وكأنهم يعبدون طريق سلامهم الداخلي بأن يتحدثا عما يعتبر مشكلة بالنسبة إليهم بصوت عال في قاعة مليئة بالتصفيق والضحك، فيخضع ألمه لجهاز عرض ويحوله إلى عرض مسرحي مسلح بالتقبل، ويسمى هذا السلوك التكيف عبر الدعابة الذاتية Self-deprecating humor، وهو أسلوب دفاعي ناضج ومؤثر، ووفقاً لتصنيف آلية الدفاع النفسي المعتمدة في معهد “هارفارد” للصحة النفسية فإن الدعابة من أعلى مستويات الدفاعات النفسية، كونها تتيح التعبير عن المشاعر المؤلمة من دون إنكارها أو قمعها بل بإعادة تشكيلها، وقد وجد باحثون في دراسة نشرت بمجلة “Personality and Individual Differences” عام 2009 أن الأشخاص الذين يستخدمون السخرية من الذات كوسيلة للتعامل مع التوتر يتمتعون بمعدلات أعلى من التكيف النفسي والمرونة، وقدرة أفضل على التواصل الاجتماعي، فبدلاً من كبت الألم يعيدونه للسطح بصورة قابل للضحك مما يجعلهم أقدر على بناء سرديتهم الذاتية.

وهذه السخرية لا تهدف فقط إلى تسلية الآخرين بل إلى شفاء داخلي، فحين يسخر الإنسان من شكله أو ظرفه أو مخاوفه فهو لا يقلل من ذاته بل يقول إنه يراها ويتقبلها ويضحك معها، فهي عملية تطبيع عاطفي تتجاوز العيب والخجل، وتمهد طريقاً لسلام داخلي يبدأ من الضحك ولا ينتهي عنده.

آليات دفاع موسيقية

ويشبه هذا إلى حد بعيد كيفية تعاطي الناس مع الخوف في الحرب، بخاصة أولئك الذين لا يملكون إلا أن يعيشوا الحروب مراراً وتكراراً كما يحدث في لبنان، فما يبدو لوهلة مشهداً فكاهياً أو مستفزاً لمواطنين يرقصون ويسهرون بينما تمر الصواريخ، هو في العمق مركب نفسي معقد تتشابك فيه المقاومة مع النكران والتحدي مع الإنهاك والثقافة مع الحرب، وكأن هذه السلوك ينبع من اللاوعي في محاولة لتجميل الفوضى والتخفيف من قبح الحروب، لكن كيف تحول الخوف إلى مرونة من نوع مختلف أو إلى تحد؟

 

نظريات نفسية عدة تطرقت إلى هذه السلوكيات وأولها المرونة النفسية أو Psychological Resilience ، وهي القدرة على التكيف مع المحن والتفاعل مع التهديدات بصورة تجنب الفرد الانهيار النفسي، وفي تقرير صادر عن RAND Corporation عام 2011 تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يتعرضون لتهديدات مزمنة مثل الحروب والقصف المتكرر يطورون آليات دفاع نفسية تشمل إعادة تأطير الحدث ليبدو أقل تهديداً، وذلك من خلال خلق طقوس يومية تساعد في استعادة السيطرة، حتى ولو كانت شكلية مثل التدخين أو السهر أو الرقص أو تحويل الخوف إلى حدث جماعي ما يقلل من أثره.

وثمة نظرية أخرى وهي التحدي الجماعي، إذ يعتبر الباحثان جوزيف فورغاس وطوني غوردون في دراساتهما عام 2012 حول علم النفس الاجتماعي، أن التهديدات الوجودية لا تؤدي دائماً إلى الانسحاب أو القلق، فهي قد تخلق ما يعرف بـ “التحدي الجماعي” أو “التمرد الرمزي”، وأهم سمات هذه النظرية هي أن يتبنى الأفراد سلوكيات متحدية أمام السلطة أو مصدر الخطر، كما يتشجع الناس بعضهم بعضاً في التظاهرات، ويكون الهدف إثبات الكرامة وحضور الوعي، ونجد هذا السلوك غالباً في المجتمعات التي اعتادت القمع أو التهديد الدائم.

وهكذا يبدو رقص بعض السكان في لحظة مرور صاروخ كرسالة غير لفظية عن تحديهم ما يفرض عليهم، كما أن توثيق هذه اللحظات بالهواتف ونشرها يعيد تعريف من يملك السردية، فبدل أن يكون الحدث مرعباً يصبح قابلاً للفلترة والمونتاج والمشاركة، بالتالي السيطرة عليه نفسياً ربما.

رقص ضد الهلع

كما يمكن فهم السهرات المصورة أثناء مرور الصواريخ كمشهد للاستمرارية الرمزية للحياة على رغم الخطر، إذ تظهر لامبالاة ظاهرية لكنها في الحقيقة آلية دفاعية ضد الهلع والخوف، ويظهر بعض الناس أنماطاً من السلوك الدفاعي الزائف المعروف بـ Pseudo defensive behavior كطريقة للإنكار، وهذا يعني أن الناس لا يتعاملون مع الخطر بحذر بقدر ما يتجاهلونه علناً أمام الآخرين بينما يعيشونه قلقاً داخلياً، فالضحك أمام الكاميرا لا يعني بالضرورة سلامة داخلية وإنما آلية دفاعية واجتماعية لنفي حال الضعف، كما أن الاستجابة الجماعية تضمن الانتماء للجماعة بدل الاستسلام للقلق الفردي، فيبدو الرقص أو المشاهدة أو التهييص كشيفرة استغاثة وليست نشوة أو فرحاً.

ومثّل الفيديو الذي انتشر كالنار في الهشيم من الأردن، إذ لم يكن الرقص مجرد احتفال، وإنما مشهد سياسي واجتماعي بامتياز، شبان يهتفون “اضرب اضرب تل أبيب” على وقع الصواريخ الباليستية، بلا خوف أو تراجع، والمشهد يعكس ما يسميه علماء النفس “التحدي الجمعي”، وهو سلوك جماعي يواجه الخطر بالرفض العلني، وحين يكون الضحك والاحتفال ليس تهوراً بل أداة مقاومة نفسية ورسالة مزدوجة تقول للخصم بأن الرعب لا يمر، وللداخل بأن الكرامة والتضامن أقوى من الصواريخ.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها