خاص
الأثنين ٢٩ حزيران ٢٠٢٠ - 12:15

المصدر: صوت لبنان

صوت لبنان تنشر أجزاء من كتاب الرئيس أمين الجميّل ” الرئاسة المقاومة” (1)، الجميّل لفيليب حبيب : أريد خروج كل الجيوش الأجنبية من بلادي

ينشر الموقع الالكتروني لصوت لبنان VDL.ME ،إعتبارا من اليوم ، فصولا من كتاب الرئيس أمين الجميّل ” الرئاسة المقاومة”، وفيه يؤرخ لمذكرات بيت وطني ورئيس مقاوم صمدت رئاسة الجمهورية ابّان ولايته، ومعها صمدت المؤسسات الدستورية والنظام اللبناني في أصعب مرحلة من تاريخ الوطن.

في هذه الحلقة من كتابه بعنوان «الرئاسة المقاوِمة» يتناول الرئيس أمين الجميّل ” مغامرة الانقاذ ” التي قادها، وكيف تسلم سدة الرئاسة من الرئيس الياس سركيس وسنوات المواجهة والصمود حيال الشروط والتعنت السوري والاسرائيلي، وماذا دار في الاجتماع الاول بينه وبين موفد الرئيس الاميركي السفير فيليب حبيب؟

ويقول الرئيس الجميل بادرت فيليب حبيب في اللقاء الاول معه: “أتمنّى أن تنقل وجهة نظري إلى الرئيس ريغن. ليس لديّ أي استعداد للتفاوض على كل ما يمسّ السيادة اللبنانية. ما يلامس هذا الموضوع لا تقاربه معي. أريد خروج كل الجيوش الأجنبية من بلادي. الجيشان الإسرائيلي والسوري وما تبقى من منظمات فلسطينية، كي نستعيد سيادتنا على أراضينا. هذا كل ما نطلبه، وبلا أي ثمن…. ما أطلبه هو التعاون من أجل تحقيق هذه الأهداف وخروج كل القوات الأجنبية من لبنان. على إسرائيل أن لا تفكّر في جرّنا إلى معاهدة سلام معها. لن أفعل”.

وهنا نص الحلقة الاولى :

  

“مغامرة الإنقاذ”

 

ها أنا أول رئيس للبنان لا يتقبّل التهاني عند انتخابه. وصولي إلى منصب كهذا بلا مظاهر إنتصار وفرح واعتداد ونشوة. لمّا أزل منذ أيام قليلة متّشحاً بسواد الحِداد. أي قدر هذا يُرغمني على ربطة عنق سوداء ترافقني معظم سني حياتي؟ المرّة الأولى خلفاً لخالي موريس الجميّل نائباً عن المتن، المرّة الثانية خلفاً لشقيقي بشير رئيساً للجمهورية، المرّة الثالثة مع رحيل والدي في عزّ التحدّيات والتهديدات التي واجهت عهدي وأنا في أمسّ الحاجة إليه، المرّة الرابعة الأشدّ ألماً عند إستشهاد إبني بيار في عزّ شبابه وعطاءاته.

أطلقتُ على عهدي شعار “مغامرة الإنقاذ”، شعوراً مني كون مهمتي مستحيلة، أو شبه مستحيلة على الأقلّ. دعوتُ المسيرة الجديدة “مغامرة”، مع أنها مجازفة ليس فيها ما يمكن إعتباره مضموناً. ليس قليلاً، ولا سهلاً، أن يبدأ رئيس جديد للجمهورية ولايته بمغامرة محفوفة بالأخطار. أخلفُ بشير بعدما رفع السقف السياسي إلى حدّ لا يسع أحد سواه أن يبلغه، جرّاء الطموحات الكبيرة والأحلام المذهلة التي زرعها في عقول اللبنانيين، بغية إخراج بلادهم من الحروب وتحريرها، وإعادتهم جميعاً إلى كنف الدولة، وتحقيق السلام والمصالحة الوطنية. حصل ذلك في 21 يوماً فقط من انتخابه. وصل بشير منتصراً في خياراته الوطنية ورهاناته ومشروعه السياسي، فيما أخلفه أنا منكسراً باغتياله الوحشي.

أدخلُ إلى الولاية وأجبه واقعاً صعب الإستيعاب، مثقلاً بالصعوبات. وطئتُ القصر الجمهوري وكأنه مسكون بالأشباح. لأشهر خلت، مذ بدأ الإجتياح الإسرائيلي وقبل نهاية ولايته، غادر الرئيس الياس سركيس الصرح الرئاسي إلى منزله في مار تقلا في الحازمية، يعقد فيه معظم الاجتماعات، ما خلا قلّة أمور تحمله على العودة إلى قصر بعبدا. عندما باشرتُ مهماتي، كان ثمّة موظفون مداومون قليلون لم يبرحوا مكاتبهم رغم إستمرارية القصف. وعلى مسافة غير بعيدة من الطريق إليه، إنتشر جنود إسرائيليون كانوا قد حاصروا بيروت من الجنوب والشرق قبل أن يقتحموها غداة إستشهاد بشير، ويحتلوها كلّها. أول عاصمة عربية يدخل إليها العدو. تقدّموا ـ في رسالة لا تخلو من دلالة بليغة ـ إلى جوار قصر الرئاسة اللبنانية، ونشروا حواجز على الطريق الرئيسية المفضية إليه. بعضهم عمد إلى أخذ صور تذكارية له على مقربة من مدخله. مع ذلك، أصررتُ على السكن فيه، وإدارة حكم البلاد منه، وإطلاق الشرعية الدستورية الجديدة من أرجائه، بغية الإفصاح عن رسالة وطنية أقوى: رغم كل ما يحاصرها، الشرعية اللبنانية مستمرّة.

كان من الضروري للولاية الجديدة أن تبدأ تباشير العمل فوراً. أكثر من نصف البلاد واقع تحت سطوة جيوش أجنبية: الإحتلال الإسرائيلي تمدّد في الجنوب والشوف، ووصل إلى بيروت واجتاحها، جاعلاً جنوب طريق بيروت ـ دمشق تحت سيطرته الكاملة. في المقابل شمال هذه الطريق ذهاباً إلى البقاعين الأوسط والشمالي، ناهيك بالشمال، يمسك بها الجيش السوري. أما في بيروت، فالقوة المتعدّدة الجنسية التي تضم جنوداً أميركيين وفرنسيين وإيطاليين وبريطانيين ـ كانت قد غادرت البلاد بعد إشرافها على إجلاء آخر دفعة مقاتلين فلسطينيين لشهر خلا ـ عادت مجدّداً غداة إستشهاد بشير ووقوع مجزرة صبرا وشاتيلا، على دفعات بدءاً من 24 أيلول 1982. أتت هذه القوة للمرّة الأولى من أجل مهمة محدّدة، في توقيت محدّد بدوره، هي إخراج المسلحين الفلسطينيين. الآن تعود من أجل الوقوف إلى جانب الشرعية الدستورية الجديدة التي أرأس.

تسلّمتُ جمهورية أنهكتها حروب متعاقبة: مسيحية ـ فلسطينية، ثم لبنانية ـ لبنانية، ثم مسيحية ـ سورية، مروراً بسورية ـ فلسطينية، وسورية ـ لبنانية، ومسيحية ـ مسيحية، من غير ان تفوتنا حرب فلسطينية ـ إسرائيلية، فسورية ـ إسرائيلية.

كل هذا الإنهيار والأكلاف الناجمة عنه، كان التحدّي الذي لم يسبق أن جبهه أحد من أسلافي. انتخِبتُ خلفاً لبشير على رأس جمهورية، زادي الوحيد هو الإجماع الهشّ عليّ من أجل النهوض بالبلاد أولاً، ثم إعادة بناء السلطة وهيبة الدولة واسترجاع وحدة الشعب الممزّق، وبعد ذلك بعث المؤسسات والإدارات من الركام.

في 23 أيلول 1982، في القاعة نفسها في المدرسة الحربية التي شهدت قبل 48 ساعة فقط انتخابي، أقسمتُ اليمين الدستورية في اليوم الأخير من ولاية سلفي الرئيس الياس سركيس. أدليتُ بخطاب القسم مثّل عصارة تجربتي السياسية وخياراتي، ساعد في صوغه إدمون رزق. من ثم توجّهتُ إلى القصر الجمهوري وتسلّمتُ مقاليد الحكم من الرئيس سركيس. لم تستغرق أكثر من ربع ساعة تحت وطأة الظروف الإستثنائية الحرجة.

“ليس عندي ما أطلعك عليه ولا تعرفه أصلاً. أسرار الجمهورية لا وجود لها إلا في مخيّلة الناس”، أجابني عندما سألته عن احتمال وجود ملفات سرّية.

توقّعتُ أن يكون ثمّة اجتماع عمل بيننا. سألته ماذا يسعه إطلاعي على مسار المفاوضات مع الأميركيين التي يديرها السفير فيليب حبيب، الموفد الخاص للرئيس رونالد ريغن، فأجابني باقتضاب: “سيُطلعك على صورة الوضع الحالي”.

سألته عن الإدارة وبمَ ينصحني؟ فلم يُجب.

أخبرني أن فيليب حبيب إقترح عليه، قبل قليل، أن يعلن قبل مغادرته القصر أن رحيل كل الجيوش الأجنبية المتمركزة في لبنان بات شبه محسوم، مؤكداً له أن “في إمكانك أن تعد الشعب بذلك في خطابك الوداعي”. لكن سلفي، الخبير في الوعود السياسية الواهية، لاسيّما من القوى العظمى، أجابه: “ليس هذا أول وعودكم، ولا أريد أن أعطي الشعب اللبناني آمالاً كاذبة”.

ثم غادر قصر بعبدا إلى منزله في الحازمية.

لم يمضِ وقت قصير، حضر فيليب حبيب ومعه فريقه، ودخل للتوّ في التفاصيل، متحدّثاً عن إدارته المفاوضات مع إسرائيل.

أجبته للفور: “أتمنّى أن تنقل وجهة نظري إلى الرئيس ريغن. ليس لديّ أي استعداد للتفاوض على كل ما يمسّ السيادة اللبنانية. ما يلامس هذا الموضوع لا تقاربه معي. أريد خروج كل الجيوش الأجنبية من بلادي. الجيشان الإسرائيلي والسوري وما تبقى من منظمات فلسطينية، كي نستعيد سيادتنا على أراضينا. هذا كل ما نطلبه، وبلا أي ثمن. أتكل على إدارتك التي وضعت يدها على قضية لبنان. كانت لكم مساهمة فعّالة في إخراج المسلحين الفلسطينيين من بيروت، وأطلقتم الحوار اللبناني ـ الإسرائيلي من أجل الإنسحاب. أنا ممتنٍ لكم، الرئيس ريغن وأنت اللبناني الأصل. ما أطلبه هو التعاون من أجل تحقيق هذه الأهداف وخروج كل القوات الأجنبية من لبنان. على إسرائيل أن لا تفكّر في جرّنا إلى معاهدة سلام معها. لن أفعل”.

بغرابة، بما يشبه ضبط الإيقاع في تلك الليلة الأولى في القصر، هبّت على المبنى عاصفة إستثنائية. بلغت قوتها حدّاً جعل زجاج القاعة الكبرى المجاورة للمكتب يتشظّى. كان ذلك يُنبىء بما ستكون عليه السنوات الست الآتية.

في تلك الحقبة من الغموض والبلبلة، حيث التحالفات تنعقد وتنفسخ بين ليلة وضحاها، والمنطق الحربي يسيطر على كل ما عداه، نبتت أمامي مهمتان أولويتان في آن: إستعادة وحدة الدولة وسلطتها وبناها، والعمل من أجل انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان.

كان لا بدّ، قبل كل شيء، من تشكيل حكومة تخلف حكومة الرئيس شفيق الوزّان الذي تقدّم باستقالتها في 24 أيلول، غداة مباشرتي صلاحياتي الدستورية. لم يكن الأمر سهلاً، لأن ذلك يتطلّب في آن مراعاة القوى السياسية القائمة، وتدارك الصراع الذي قد تولّده العداوات والضغائن داخل الحكومة بالذات. كنت أخشى التفجّر المبكر لحكومة إتحاد وطني، ما قد يتسبّب في تلك المرحلة بأزمة دستورية خطيرة. قمح المصالحة الوطنية لم يكن قد نضج بعد لحصاده. ذاك أن الجراح كانت أعمق من أن تُضمَّد على هذا النحو، والإنقسام الوطني لا يزال عميقاً في معظم ما يلتقي عليه اللبنانيون، ويفترقون من حوله.

كنت في صراع مع الوقت وفي مأزق ناجم عن انتخابي، من غير أن أكون جاهزاً للمسؤولية الدستورية. لم تكن بين يديّ ما فعل بشير منذ تحضرّ لهذا الإستحقاق عام 1980، عندما أعدّ ملفات الحكم وبرامجه. قضت الخطوة الأولى بأن أعقد الاجتماع الأول في قصر بعبدا مع مدير المخابرات جوني عبده والمدير العام للرئاسة كارلوس خوري ـ وكانا يستعدّان لاستقبال بشير ـ كي نفكّر في أي حكومة نبدأ.

 

فريق العمل

وددتُ بداية تأليف حكومة إتحاد وطني تضع لبنان على سكة الخروج من الحرب، مستفيداً من الإجماع على رئاستي، كمدخل إلى التسوية واستعادة الوحدة الوطنية. عزمتُ على تأليف حكومة إتحاد وطني يرأسها الرئيس صائب سلام. في البحث مع الفريق المصغّر تبيّن تعذّر تحقيق هذا الهدف، في ظلّ الحواجز والإحتلالات والأوصال المتقطعة، بينما الجيش الإسرائيلي تراجع إلى مداخل بيروت بعدما تغلغل في أحيائها قبل بضعة أسابيع غداة إستشهاد بشير. التباعد حقيقي بين المكوّنات اللبنانية إلى حدّ يصعب معه جلوسها إلى طاولة واحدة. أضف خشيتي من انفجار الحكومة ـ ونحن لمّا نزل في مطلع العهد ـ جرّاء الخلافات المستشرية في شتى الملفات: إسرائيل، سوريا، الداخل اللبناني المفتت.

من دون أي مشاورات مسبقة، قرّرتُ بعد اختلائي بنفسي تحديد الخيارات. في الأيام الأولى لم يكن لديَّ فريقي في الحكم، بل رجالات عهد سلفي المستمرّين في القصر، فبدوتُ دخيلاً عليهم. وصلتُ إلى إقتناع مفاده الحاجة، في المرحلة القريبة، إلى حكومة غير سياسية يتمثّل فيها المجتمع المدني وهيئاته الفاعلة. لم أشأ ضم أي حزبي إليها، كتائبي أو غير كتائبي. إذذاك وجدتُ في الرئيس شفيق الوزّان خير مَن يرأسها. كنت في حاجة إلى دعم والدي بيار الجميّل وكميل شمعون وصائب سلام في هذا الوقت بالذات الذي لم يعدُ، في حسباني، سوى مرحلة إنتقالية تعدّ لحوار بين الأفرقاء اللبنانيين، توطئة لحكومة إتحاد وطني لاحقاً.

عرفتُ الرئيس الوزّان قبل سنوات. شخصية سنّية بيروتية معتدلة، مشهود لها إخلاصها وصدقها وشجاعتها. محام ناجح شغل رئاسة المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى سنين. تجربته كنائب ووزير سابق أتاحت له الإلمام بشؤون الحكم. ثمّة دافع آخر غير شخصي، هو إستمرار التفاوض مع الأميركيين. للوزّان ـ كما لصائب سلام ـ دور مهم في إنجاز الاتفاق مع فيليب حبيب على إنقاذ بيروت من دمار محتمل، عندما أقنعا ياسر عرفات والفصائل المؤتمرة به في المقاومة الفلسطينية بمغادرة مقاتليهم لبنان. لم يكن من السهل الوصول إلى هذا الاتفاق، وكان بشير أكثر الملحّين عليه حتى عشيّة انتخابه بغية تنظيف لبنان من الجيوش غير اللبنانية. ولأن الحوار مع الأميركيين، ومن خلالهم مع الإسرائيليين لضمان إنسحاب هؤلاء، لم يكتمل، وجدتُ في الوزّان على رأس حكومتي الأولى أفضل معين للمضي في هذه الخطة، فأعدتُ في 4 تشرين الأول تكليفه المهمة.

في وقت قصير تمكّنا، الوزّان وأنا، من تأليف الحكومة الأولى التي ضّمت وجوهاً من خارج مجلس النواب، بأعضائها جميعاً بمَن فيهم رئيسها. مشهود لهم جدارتهم في مهنهم واستقامتهم ونزاهتهم، من نخبة المجتمع المدني، بينهم مَن لم يخض قبلاً المعترك السياسي ولم يُوزّر، كإيلي سالم الآتي من الجامعة الأميركية في بيروت، ونقيبين للمحامين هما عصام الخوري وروجيه شيخاني، ونقيب للمهندسين هو بهاء الدين البساط. إنضم إليهم طبيب بارز في الجامعة الأميركية منخرط في العمل الأهلي هو عدنان مروة، ومحام معروف هو ابراهيم حلاوي، ومهندس معماري ذو شهرة دولية هو بيار الخوري، ورجل أعمال هو جورج أفرام، وعادل حمية. معظم هؤلاء عرفتهم في ما مضى. كان خياري بين فؤاد بطرس وإيلي سالم، إلا أنني مِلتُ إلى الثاني كي يُعيّن وزيراً للخارجية في مرحلة تقتضي تواصلاً مستمرّاً ودائماً مع الأميركيين الذين أظهروا رعاية، سياسية وأمنية، للعهد الجديد، وسيأخذون على عاتقهم بعد أشهر قليلة وضع خطة إعادة بناء الجيش اللبناني وتدريبه وتسليحه. من خلال هؤلاء الوزراء أردتُ تفادي الوصول إلى حكومة منحازة، توصف بالتحدّي أو المواجهة. توخيّتُ ورئيسها الإتيان بفريق عمل غير سياسي، تمرّس في النجاح والإحتراف، يتمتّع باحترام الأطراف جميعاً لتحقيق الوفاق الوطني، وتميّز بالصدق والشفافية والكفاية.

لم تنقضِ خمسة أيام، 7 تشرين الأول، حتى صدرت مراسيم الحكومة الأولى. عشرية. في الغداة كانت أولى جلساتها لتأليف لجنة صوغ البيان الوزاري، أكدتُ في مستهلها أن الدولة في “أمسّ الحاجة إلى إعادة بناء، والمواطن في أمسّ الحاجة إلى عودة الثقة بوطنه، كما أن ورشة البناء مسؤولية اللبنانيين جميعاً”. لاقاني رئيس الحكومة بالثناء على دعوتي الوزراء إلى أن نكون فريق عمل واحداً نحافظ على الإنسجام.

مثلت الحكومة أمام مجلس النواب في 2 تشرين الثاني 1982 للإدلاء ببيانها الوزاري، وخرجت منه في 9 تشرين الثاني بثقة غالبية 58 نائباً، في مقابل صوت واحد معارض. حازت صلاحيات إشتراعية لستة أشهر في شؤون الدفاع والأمن والسلامة العامة والإنماء والإسكان والقضاء والإعلام والموظفين والضرائب.

في الواقع، بسرعة مميّزة وصدقيّة وجدارة، أنجزت هذه الحكومة 150 مرسوماً إشتراعياً في ميادين مختلفة، شكّلت نقلة نوعية على طريق أداء الشأن العام. بعض من تلك المراسيم الإشتراعية لا يزال نافذاً حتى الآن. بيد أنني أفاخر بإنجاز مهم أقدمتُ عليه، هو ما دعوتُه “ديموقراطية التعليم” عندما أنشأت في الجامعة اللبنانية كليّات الطبّ وطبّ الأسنان والصيدلة والهندسة، إلى كليّات أخرى سواها. أردتُ من هذا التطوير للجامعة الوطنية جعل التعليم العالي في متناول اللبنانيين جميعاً، وتحقيق قفزة نوعية في الإنماء.

ما كانت القوات اللبنانية لتقبله من قائدها، فاعتبرته خيانة لمسيرتها حين صدر مني. ثمّة أعضاء كثيرون فيها وعدوا أنفسهم سلفاً بتولي مسؤوليات طبيعية أو حقيبة وزارية في الحكومة الأولى لبشير، إلا أن ظروف البلاد والصراعات والأحقاد لم تكن تسمح في المرحلة تلك بالعودة إلى هذا الخيار، ووضع الأضداد وجهاً لوجه. ما أن صدرت مراسيم الحكومة الجديدة، حتى انفجر الحقد عليَّ وإستمرّ بلا انقطاع فترة طويلة. إنزعج معاونو بشير على الأخصّ من وزيرين إعتبروهما، خطأً، منحازَيْن إلى الفلسطينيين واليسار لمجرّد إنتمائهما إلى الجامعة الأميركية في بيروت، منبع اليسار اللبناني: الدكتور إيلي سالم عميد كلية العلوم الإنسانية، والدكتور عدنان مروّة الأستاذ في كلية الطبّ. مع ذلك، إنضم إلى فريق عملي بعض من المعاونين البارزين في القوات اللبنانية من أجل طمأنتها، وتخفيف غلواء حملاتها غير المبرّرة. جئتُ بجورج فريحة الذي حلّ في أمانة سرّ القصر الجمهوري على غرار كبير موظفي البيت الأبيض يشرف على الإدارة والتعيينات، وعبدالله بوحبيب مستشاراً للشؤون الديبلوماسية قبل تعيينه لاحقاً عام 1983 سفيراً في واشنطن، وألفرد ماضي. إلا أن أبرز هؤلاء زاهي البستاني الذي كان المعاون الأول لبشير والأقرب إليه، والمسموع الكلمة والأكثر ثقة لديه، يمسك بكل ملفاته السياسية والأمنية. مع ذلك ظلّت القوات اللبنانية على طرف نقيض مني، غير متعاونة ولامبالية تتحيّن فرصة الردّ. هل كان ذلك بإرادتها أم مرغمة؟

كنت أشعرُ بأن التوافق الذي رافق انتخابي كان ظاهرياً وصورياً إلى حدّ كبير. فوجودي خلف دفّة السفينة كان نتيجة مجموعة عوامل متناقضة ومصالح إقليمية متضاربة. كنتُ أعي طبيعة هذا التوافق المصطنع والعابر. والحقّ يُقال إن قلّة كانت ترى أنني سأنهي ولايتي على نحو طبيعي، وبشيء من الفظاظة أقول إن أحداً لم يكن يبالي بسلامتي. لذا كان من المهمّ جداً أن لا أجازف في الإبحار وسط العاصفة من دون أن تكون لديّ سفينة ذات عارضة متينة.

كانت هيكلية رئاسة الجمهورية فقيرة جداً. ملاكها البشري لم يكن يضم سوى موظفَيْن كبيريْن: مدير عام ـ مستقيل فوق ذلك ـ والمدير الفني محمود عثمان الذي إستمرّ في موقعه إلى جانبي وهو صاحب خبرة طويلة ومشهود له المهنية العالية والنزاهة. يُعاونهما ثلاثة موظفين. لم تكن هناك أي بنية لتدير شؤون الرئاسة وتسهيل عمل الرئيس. فكان من أولى اهتماماتي أن أسدّ هذه الثغرة. بعد ثلاثة أشهر، أصبحتُ محاطاً بفريق من المعاونين مكوّن من نحو مئة شخص. ولدواعي التوفير، إذ لم يكن ثمّة مجال لتعيين موظفين جدد. كانت إدارات عدّة، منها التربية الوطنية والدفاع، تعتمد إلحاق موظفين مدنيّين وضبّاط من الجيش بها. عيّنتُ الدكتور وديع حدّاد، الموظف السابق في البنك الدولي والرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء، مستشاراً لشؤون الأمن القومي. كان اختصاصياً في شؤون التربية سبق أن إختبرتُ مهنيته إبّان حرب السنتين من خلال تعميم تجربة التلفزيون التربوي. أمضى الدكتور حداد فترة تدريبية في البيت الأبيض، مسترشداً بطرق عمل الأمن القومي، تمهيداً ليشغل في الرئاسة رئيس مجلس الأمن القومي. وهو منصب غير مسبوق في لبنان، يمثّل واسطة العقد بين الرئيس ومعاونيه، ويتولى إدارة هذا الفريق. هو أول معاونيّ ويتقدّم الآخرين. كنت أدعوه “الردار” المنوط به مسح كل ما يجري في الجمهورية، أمنياً واقتصادياً وإدارياً، كي أطلع عليه. قبل أن يُمسيا وزيرين كان الدكتور إيلي سالم والمهندس بيار الخوري من مستشاريَّ. كما عيّنتُ القاضي جوزف جريصاتي مديراً عاماً للرئاسة خلفاً لكارلوس خوري، وإبراهيم شويري قبل تعيينه لاحقاً رئيساً لمجلس الخدمة المدنية هو الخبير الأول في شؤون الإدارة اللبنانية وشجونها والمشهود له الإخلاص والنزاهة.

لم أُحِط نفسي بأي مساعد ينتمي إلى حزب الكتائب، خشية أن يُفسّر أنني أدمج بين الرئاسة والحزب. لم أرد الظهور بمظهر الرئيس الذي يأتي ومعه حزبه. بذلك، بعدما بتتُ رئيساً للبنانيين جميعاً، وضعتُ فاصلاً بين ماضيّ وحاضري. كما أوجدتُ ما دعوته “غرفة الأوضاع” ترأسها العقيد منير رحيّم، ومقرّها الطبقة السفلية في قصر بعبدا، موصولة ببنك المعلومات في “بيت المستقبل” في النقاش مباشرة، عبر خط هاتفي. فيها تتجمّع كل المعلومات ويصار إلى تحليلها، وتُحال إلى وديع حدّاد الذي يغربلها ويرسلها إليّ. لهذه الغرفة مهمات أمنية وإدارية، ناهيك بغرفة لتلقّي شكاوى المواطنين ومعالجتها.

في نهاية المطاف جعلتُ من الرئاسة اللبنانية ملاكاً جديداً إختصاصياً، متطوّراً بعد إعادة تنظيمه يواكب الحداثة وشؤون العصر، يعمل فيه خبراء وتقنيون متمرّسون. وضعتُ نصب عينيَّ أن علينا التحضير لبناء الدولة المدنية في موازاة التحرّك لإخراج الجيوش غير اللبنانية من الأراضي اللبنانية كلها. لم تكن لدينا فترة سماح تحت وطأة الأحداث المتلاحقة والتحوّلات المتسارعة.

من خارج هؤلاء إضطلع غسّان تويني بدور المستشار الأول. كما تعاونتُ مع جان عبيد الملم بالعلاقات اللبنانية ـ السورية وهو صديق قديم، وكمال الشاعر رئيس “دار الهندسة” العالمية في القضايا الفنية، وجوزف أبوخليل كضابط إرتباط مع حزب الكتائب، وجوزف الهاشم الخبير في الشؤون الإعلامية.

تدريجاً إستكملتُ فريق المعاونين. في جلسة مجلس الوزراء في 8 كانون الأول 1982، إنسجاماً مع ما قاله الرئيس الوزّان ـ ودُوِّن في المحضر ـ أن “من القواعد المألوفة في لبنان أن يكون لصاحب العهد في أول عهده إختيار بعض الموظفين الذين يعاونونه في الشؤون الأساسية لاسيّما الدفاعية والأمنية، وله الإختيار الحرّ في انتقاء الأشخاص الذين يثق بهم من أجل تسريع عملية الإنقاذ وإعادة السيادة كاملة إلى السلطة الشرعية”، إقترحتُ تعيين قائد للجيش هو العقيد إبراهيم طنّوس، أقرب الناس إليَّ وأكثرهم إخلاصاً وشجاعة عرفته منذ بداية الحرب اللبنانية، وكان من أوائل مَن فكّرتُ في الإستعانة بهم. إقترحتُ أيضاً زاهي البستاني، المقرّب من بشير، مديراً عاماً للأمن العام، وهشام الشعّار مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي.

 

محاذير ثلاثة

كانت إدارات الدولة الغارقة غصباً عنها، منذ مدّة طويلة، في سُبات عميق تحاول مساعدتي قدر المستطاع. أدركتُ حجم المصاعب الإدارية والبنيوية التي تنتظرني وضخامة المهمة. علمتُ أيضاً أن دربي مليئة بالعقبات، من غير أن يغيب عن بالي أن المصير المشؤوم الذي حلّ ببشير يتهدّدني أنا بدوري. ذلك أن الجهات نفسها لا تزال عازمة على استخدام الوسائل ذاتها لمنع الدولة اللبنانية من النهوض من جديد. أنا عضو في حزب سياسي مناضل ومحارَب بقوة، يغار منه البعض ويخشاه، وقد تبوّأتُ سدّة المسؤولية الأولى لأمّة أنهكتها سنوات عدّة من الحرب واستنزفتها بعشرات الآلاف من القتلى، كما كنت القائد الأعلى للجيش اللبناني المفكّك في مواجهة ميليشيات قوية حسنة التجهيز. الدمار كبير، وأضراره  تقدّر بنحو عشرين مليار دولار أميركي بحسب البنك الدولي، علماً أن معارك حرب السنتين، عامي 1975 و1976 طاولت أساساً بيروت وجنوب لبنان. ها هو الجيش الإسرائيلي يحتلّ الجنوب كله وصولاً إلى بيروت، العاصمة العربية الوحيدة التي تعرّضت للإجتياح. لا القاهرة ولا دمشق ولا عمّان عرفت مصيراً مشابهاً. بحسب عبارة الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، ورثتُ بلداً مقسّماً “بحدود داخلية مرسومة بالدم والنار”.

عملية “سلام الجليل” أتمّت تدمير بنية تحتية اقتصادية واجتماعية كانت الحرب قد ألحقت بها أضراراً جسيمة. أجبرت أبناء قرى بكاملها على النزوح إلى داخل بلدهم. راح الفلسطينيون، المصابون بهزيمة قاسية، يتحيّنون الفرصة للإنتقام. أما الشعب اللبناني، القابع تحت القصف والإذلال محروماً من الماء والكهرباء والطرق، فكان يدفع فاتورة الحرب بجنونها وحقدها، لاسيّما فاتورة المطامع والمصالح الأجنبية، إلى جانب الطموحات الشخصية والحسابات الفئوية.

هذا ما كنت أفكّر فيه لدى تسلمي مهماتي في 23 أيلول 1982. كنتُ أتبيّن ثلاث عقبات يمكن أن يتسبّب كلٌّ منها في غرقي:

الأولى، الشقاق بين اللبنانيين، وقبل كل شيء بين المسيحيين والمسلمين، ثم بين المسيحيين أنفسهم. بمساعدة التحريض الأجنبي، كل جماعة طائفية أو إيديولوجية من الشعب اللبناني تعتبر نفسها معتدى عليها وترى، بكل نيّة طيّبة غالباً، أن حقوقها منتهكة أو منتقصة. جمعت حرب لبنان كل خصائص الحرب الهدّامة: تعطيل البنى الرسمية وبخاصة المؤسسات العسكرية لمنع الدولة من الفصل في النزاعات الحادة، مواجهة مسلحة بين دويلات. كان قد مضى على هذا الوضع أكثر من عشر سنوات. شريعة الغاب، مقرونة بشريعة الثأر، سائدة في القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية.

الثانية، صعوبة إنهاء هذا الإنقسام الإنتحاري في وقت كان لكل ميليشيا معتادة على مكتسبات قسرية وامتيازات مغتصبة متراكمة طوال فترة غياب الدولة، أضف إليها طموحاتها وتطلعاتها الذاتية. بدا من المستحيل دفع الأحزاب إلى التفاهم في ما بينها من طريق الإقناع فحسب، ومن المستحيل أكثر إرغامها على ذلك بقوة ما كنتُ أملكها لأن المصالح السياسية وخصوصاً المالية لأُمراء الحرب هائلة في مقابل دولة عاجزة.

الثالثة، التي كانت تتهدّد سفينتي تتعلق بواقع أن الإنقسامات القائمة بين اللبنانيين هي في نهاية المطاف إنعكاس لنزاع يتجاوزهم. السوريون والإسرائيليون والإيرانيون والأميركيون والسوفيات ومجمل العرب بشكل أو آخر، كلّهم يتقاتلون عندنا، وفي أكثر الأحيان، بواسطة “أصدقاء” محليين، وعنفُ نزاعهم كله يمارَس على أرضنا. الخيار الوطني الذي كانت تمليه عليَّ المصلحة الحيوية للبلد، بل الحرص على بقائه، كان على الدوام خيار التضامن مع العالم العربي. كنت قلقاً من نفوذ إسرائيل المتزايد في بلدنا، خصوصاً منذ اجتياح عام 1982و غيديوليوجية من الشأو وتأثيرها على القوات اللبنانية ـ المخترَقة ببراعة من الموساد ـ والمفترَض فيها وعليها أن تكون داعمة لي، كان يضعني في موقف حرج ويجعل مهمتي أكثر صعوبة. في عزّ المفاوضات، كان الإسرائيليون يستفيدون من تلك العلاقة مع القوات اللبنانية للضغط على المفاوض اللبناني، وإرغامه على تنازلات مضرّة بالبلاد. قد يكون ما أطلعني عليه معاونيَّ عمّا بثته إذاعة إسرائيل في 2 شباط 1983 خير معبّر. بثّت أن الدولة العبرية “قد تعيد درس علاقاتها مع الزعماء السياسيين والقادة العسكريين المسيحيين في لبنان، لأن ساعة مواجهة الحقيقة واتخاذ القرارات حيالهم دنت. الأمر هنا لا يتعلق بممارسة ضغوط لإعطاء دفعة قوية للمفاوضات المباشرة مع لبنان، إلا أن إسرائيل تدرس تقييم علاقاتها مع أولئك، ما لم تطرأ تغييرات أساسية وجذرية في مواقف وفد لبنان إلى المفاوضات المباشرة”.

أضاف التقرير: “الرئيس أمين الجميّل أصدر أمراً إلى الزعماء المسيحيين بالإمتناع عن لقاء شخصيات إسرائيلية رفيعة المستوى، غير أنهم رفضوا هذا الطلب. الرئيس اللبناني طلب أيضاً نقل مقرّ قيادة القوات اللبنانية المسيحية من شرق بيروت إلى مكان آخر. لم يتحقق هذا الطلب حتى الآن. وجاء اجتماع أرييل شارون وزير الدفاع الأسبوع الماضي بعدد من الشخصيات المسيحية، في ختامه لم يترك وراءه أية شكوك حيال النيّات المستقبلية لإسرائيل”.

 

رسالة البطريرك الماروني مار أنطون بطرس عريضة إلى الشيخ بيار الجميّل يشيد بدوره في الذود عن استقلال لبنان.