خاص
الأربعاء ٨ تموز ٢٠٢٠ - 11:51

المصدر: صوت لبنان

صوت لبنان تنشر أجزاء من كتاب الرئيس أمين الجميّل “الرئاسة المقاومة” (2) الجميّل لحافظ الأسد: أؤكد لكم التمسّك الثابت للبنان بكرامته وحقوقه الوطنية المشروعة

ينشر الموقع الالكتروني لصوت لبنان VDL.ME ، فصولا من كتاب الرئيس أمين الجميّل ” الرئاسة المقاومة”، وفيه يؤرخ لمذكرات بيت وطني ورئيس مقاوم صمدت رئاسة الجمهورية ابّان ولايته، ومعها صمدت المؤسسات الدستورية والنظام اللبناني في أصعب مرحلة من تاريخ الوطن.

في هذه الحلقة من كتابه  بعنوان «الرئاسة المقاوِمة»  يتناول الرئيس أمين الجميل الرسالة الاولى الى الرئيس حافظ الاسد و أول حوار معه ،  وكتب الرئيس الجميل “في رسالتي إليه شرحتُ الصعوبات المحلية والإقليمية التي أواجهها منذ الأسابيع الأخيرة بإزاء “مطالب وتعجيزات تعلو وتهبط وفقاً لمخطط يرمي إلى إطالة أمد الإحتلال على أرضنا”. قلت: “أؤكد لكم التمسّك الثابت للبنان بكرامته وحقوقه الوطنية المشروعة”.

وهنا نص الحلقة الثانية  :


في 15 كانون الأول 1982 إتصلتُ هاتفياً بالرئيس حافظ الأسد لأبلغ إليه أنني سأوفد إليه صديقنا المشترك جان عبيد. تطرّقنا في المكالمة إلى مسألة الشمال، واحتمال نشر الجيش اللبناني على طريق طرابلس التي كانت لا تزال تحت سيطرة القوات السورية. بحسب المعلومات المقلقة التي كانت تردني آنذاك، الوضع في الشمال آخذ في التدهور. تكلّمنا أيضاً في موضوع الانسحابات، لاسيّما منها انسحاب الجيش السوري، وتكليف لجنة لبنانية التفاوض مع سوريا في هذا الشأن. حمّلتُ جان عبيد رسالتي الأولى إلى الأسد طالباً دعمه في جهودي تثبيت الأمن والإستقرار، معوّلاً على مساعدته. الأهم في ما حملته مهمة الموفد، فتح الطريق أمام أول تواصل مباشر بيننا منذ انتخابي.

في رسالتي إليه شرحتُ الصعوبات المحلية والإقليمية التي أواجهها منذ الأسابيع الأخيرة بإزاء “مطالب وتعجيزات تعلو وتهبط وفقاً لمخطط يرمي إلى إطالة أمد الإحتلال على أرضنا”. قلت: “أؤكد لكم التمسّك الثابت للبنان بكرامته وحقوقه الوطنية المشروعة، وتمسّكه بكرامة إخوانه وحقوقهم المشروعة في كل ما يتخذه من مواقف وخطوات. كما يهمني أن أبلغ إلى سيادتكم إستعدادنا المفتوح لأي مبادرة أو إتصال على أي مستوى يقتضيه تحقيق أهدافنا الوطنية المشتركة. وأني على ثقة بأن الأسرة العربية بأسرها، وسوريا الشقيقة بقيادتكم على وجه الخصوص، لن تبخل بأي رأي أو قرار أو إجراء يضع حدّاً لمحنة لبنان، ويساعده على إستعادة كل سيادته وصون وحدة أراضيه، ما يعزّز قدراته في الدفاع عن الحقّ العربي ومواجهة التحدّي الذي يشمل الدول العربية بأسرها”.

كان يقتضي بداية بعث الثقة في العلاقة بيني والرئيس السوري، وفتح قناة تواصل.

اليوم التالي، 16 كانون الأول 1982، عاد إليَّ جان عبيد برسالة جوابية من الأسد، أبرَزَ فيها وقوف سوريا إلى جانب لبنان “بقيادتكم من أجل مواجهة المخاطر المتعاظمة التي لا تهدّد لبنان فحسب، وإنما تهدّد سوريا والعرب جميعاً”. لكنه أكد “ما كنتُ أتوقّعه وهو أن الدولة اللبنانية عموماً، وفخامتكم خصوصاً، لن ترضخوا للإبتزاز الإسرائيلي، ولن تقبلوا بالتفريط بالكرامة والسيادة ومستقبل الوطن العزيز لبنان”.

ثم أضاف في رسالته: “سوريا التي تعرفون، لن تتردّد في إتخاذ أي إجراء أو قرار يساعدكم على مواجهة الوضع الخطير الذي نواجهه جميعاً، إنطلاقاً من إقتناعنا بوحدة لبنان واستقلاله، وحقّ الدولة اللبنانية في ممارسة سيادتها على كل الأراضي اللبنانية، ومن دور سوريا القومي في دعم ذلك”.

وافقني “أهمية إستمرار الإتصالات واللقاءات والتنسيق في ما بيننا”، وشدّد على “كل الدعم والمساندة والمشاركة في مواجهة المحنة التي هي محنتنا جميعاً، والتصدّي للأخطار العاصفة في المنطقة بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان والعرب جميعاً”.

بالتأكيد لم يُلاقني الرئيس السوري في إيحاءاتي حيال مغزى ما قصدته عن إستعادة سيادة لبنان، كما لم يرسل إشارات واضحة، مشجعة، حيال ما أتوخاه.

أخبرني جان عبيد عن محادثاته في دمشق، بأن الرئيس السوري أبدى تحفّظه بإزاء جدوى المفاوضات مع إسرائيل التي عليها أن تنسحب من لبنان بلا شروط، لكنه أقرّ في النهاية بأنّ “في وسع لبنان التفاهم على بعض الترتيبات الأمنية، المرتكزة مثلاً على اتفاق الهدنة المعقود بين البلدين عام 1949، مع بعض التعديلات إذا اقتضى الأمر. لكن، في حال فُتحت الحدود ما بين إسرائيل ولبنان، فإن سوريا ستغلق حدودها مع لبنان”.

في شأن خطة بيروت الكبرى، أكد الأسد أنه أعطى جيشه الموجود عندنا الأمر بتسهيل مهمة الجيش اللبناني. لكنه أعرب أيضاً عن التمنّي بإجراء “مصالحة سياسية مع أصدقاء سوريا في الشمال والمتن، وقيام تنسيق وثيق بين القيادتين العسكريتين اللبنانية والسورية”.

من دون أن أحظى بدعم سوري سعيتُ إليه في الشهر الأخير من السنة، كان الخلاف مع القوات اللبنانية يتوالى فصولاً، فعملت على الحؤول دون تحقيق بيروت الكبرى، نواة إنطلاق السلطة المركزية القوية.

شعرتُ بأنني أسير في حقل ألغام، محاصر بتعنّت إسرائيلي ومكابرة سورية وغطرسة فريق كبير هو الذي تنتمي إليه المقاومة. في يوميات 3 كانون الثاني دوّنتُ ما يلي: “كانت الأشهر القليلة المنصرمة صعبة جداً. كان عليّ مواجهة الأخصام العنيدين في معسكري. رئيس الحزب إلى جانبي، وأنا أطلعه على كل شيء. هناك عدد من الكوادر الكتائبية يساعدني إدراكاً منه لحراجة الوضع والمخاطر التي تتعرّض لها البلاد”. كانت هذه الكوادر جزءاً من  القوات اللبنانية ومؤثّرة فيها.

كنا في غمرة المباحثات مع القوات اللبنانية لإيجاد حلّ بالتراضي لدخول الجيش اللبناني إلى بيروت الشرقية، عندما أبلغ إليَّ العقيد فوزي بوفرحات، ضابط الإرتباط اللبناني مع الجيش الإسرائيلي، في 15 شباط 1983، رسالة تهديد من الجنرال داغان ضابط الإرتباط الإسرائيلي مفادها: “لبنان يتجاهل وجود الجيش الإسرائيلي في عاصمتكم في مناسبة التدابير الأمنية التي يجري إعدادها لبيروت. لإسرائيل مصالحها الخاصة التي عليها الدفاع عنها. إننا نرى في ذلك نوعاً من المؤامرة الأميركية اللبنانية ضدّ إسرائيل. إذا لم تتعاون الدولة معنا، فستعرّضون البلد إلى خطر التقسيم. سوف يؤدّي ذلك، على الأمد الطويل، إلى تقسيم لبنان إلى مناطق، وإحداها موضوعة أصلاً تحت سلطة سعد حدّاد. تجاهل وجودنا والإعتماد فقط على الولايات المتحدة وفرنسا لا يخدم مصلحة لبنان”.

في اختصار، راحت إسرائيل تذكّرني بوجودها ونفوذها اللذين لا يمكن تجاهلهما، لكنها فعلياً تسعى إلى علاقة مباشرة، إلى محادثات معنا وجهاً لوجه في منأى عن وجود الأميركيين، وإلا فإنها ستضغط في إتجاه تفكيك البلد.

أول محاولة لنيل موافقة القوات اللبنانية على نشر الجيش في المناطق التي كانت تسيطر عليها، جرت في أثناء الزيارة المفاجئة التي قام بها قائدها فادي افرام لوالدي الذي صادف أنني كنت أنا أيضاً في زيارته. المحادثة التي بدأت هادئة، ما لبثت أن أصبحت عاصفة وحاسمة. في خلال النقاش الصريح والجدّي، حذّرته “من العواقب” التي قد يخلّفها موقف القوات اللبنانية على مستقبلها.

قلت: “خلافنا ينال من صدقيّة الدولة. ثمّة قوى سياسية كثيرة كانت قد منحتني دعماً متحفّظاً ومشروطاً بدأت تسحب مني هذا الدعم، والإسرائيليون يستفيدون من تناقضاتنا لإضعاف موقف لبنان في المفاوضات”.

أنهيتُ قائلاً: “السوريون والفلسطينيون مسرورون برؤيتنا في هذا الوضع. جميعنا في مركب واحد. إذا غرق، سنغرق كلنا”.

ردّاً على حججي وتأكيداتي المتكرّرة أن الجيش الوطني ليس عدوّ القوات اللبنانية، أجابني فادي إفرام الذي بدا بوضوح عاجزاً عن التصرّف، أن إقتراحي يعني “تصفية” القوات اللبنانية. ذكّرني تصلّبه بالتهديدات الإسرائيلية التي وُجِّهت إليَّ، قبل مدّة قصيرة، واختصرها شارون علناً بأسلوب مجازي، بالقول: “في إمكان الدروز أن يصلوا إلى أبواب بعبدا، والشيعة إلى أبواب الدامور إذا استمرّ الرئيس الجميّل في تحاشي الإتصال المباشر معنا”.

في نهاية اللقاء، أمهلته بضعة أيام للتفكير في إقتراحاتي وإبلاغي جوابه.

غير أن قراري إستعادة سلطة الدولة تدريجاً على كل الأراضي اللبنانية كان متخذاً أصلاً. كنت عازماً على تنفيذ خطتي حتى النهاية، بموافقة القوات اللبنانية أو غيرها من الميليشيات أو من دونها. الشعب يتوق إلى السلام، وما من أحد يستطيع أن يؤمّنه له غير السلطة الشرعية. كانت لي صداقات متينة داخل القوات اللبنانية، وقسم كبير من مقاتليها مخلص لي. لكنني فضّلتُ التوصّل إلى تسوية ودّية مع قيادتها.

الثلثاء 23 كانون الثاني 1983، قَدِم فادي افرام وحده إلى منزلي في سنّ الفيل. دخل فوراً في صلب الموضوع: “لا يمكننا الموافقة على خطتك لبيروت الكبرى”.

كنت على علم بكل التهديدات التي كان أرييل شارون يُوجّهها إلى القوات اللبنانية وأعضاء المكتب السياسي الذين قد يرتأون تأييد خطتي.

الجمعة 28 كانون الثاني، طوال ما يزيد عن ساعتين ونصف ساعة، عرضتُ أمام المكتب السياسي لحزب الكتائب، في حضور قادة القوات اللبنانية، تفاصيل خطتي وإصراري على نشر الجيش اللبناني في المناطق الشرقية. لم يكن الاجتماع الذي ترأسه والدي سهلاً، ولا إقناع القوات اللبنانية باستجابة مطلبي. بدا أن إنتزاعي الموافقة يحتاج إلى مخاض صعب، كنت إبّانه في حاجة إلى دعم الشيخ بيار الذي إهتم بدوره بالموازنة الدقيقة بين الوقوف إلى جانب رئيس الدولة وحماية القوات اللبنانية.

قلت في الاجتماع: “أنا أعمل بصمت وهدوء وأعتبر نفسي مسؤولاً عن كل القضية، عن كل القوات اللبنانية، ولا أحد يستطيع المزايدة عليَّ. لم أقاتل خلال الحرب اللبنانية من مكتبي بل على الأرض، من المتن حتى شكا وحوصرت في عينطورة”.

أضفتُ: “لا بدّ من أن أتحمّل مسؤولياتي الرئاسية والقيادة كاملة، أنا الحريص حياتياً وأمنياً ومهنياً عن كل فرد في القوات اللبنانية، وتصرّفت على هذا الأساس وبهذه الروحية. في المقابل تعاملت معي القوات اللبنانية على نحو سيء. حزب الكتائب دعم رؤساء الجمهورية المتعاقبين كلهم بلا إستثناء، أكثر من دعمه لي. ماذا قدّم لي؟ حواجز على طريق بعبدا، توقيف بوسطات التلاميذ. فادي ]افرام[ يصرّح أنه يريد السلام مع إسرائيل. يطلق تصريحات موحى بها، وهذا يحشرني أمام اللبنانيين والأميركيين. جريدة الواشنطن بوست كتبت أن الرئيس الكتائبي لا يحكم إلا المناطق الإسلامية. صائب سلام يقول لي إنني لا أمون على حزب الكتائب. أميركا تطلب مني عمل شيء ما. خزينة الدولة في وضع صعب. لن تساعدنا الدول إلا إذا أمّنا مواردنا وفي طليعتها المرفأ والجمارك. كي تحصل على 30 أو 40 مليون ليرة في الشهر، تهدر القوات اللبنانية أكثر من مليار ليرة من حقّ الدولة، لأن البضائع تدخل على نحو غير شرعي ولا تُسجّل في الدفاتر ولا تسدّد الضرائب. تفوّت القوات اللبنانية الفرصة من أجل تحقيق السلام اللبناني الذي تنادي هي به، والذي لا يقوم إلا بتقوية الشرعية”.

عقّب الشيخ بيار: “لدينا الثقة الكاملة بك، وأنت المسؤول. أنا موافق على سياستك. نحن موافقون على نشر الجيش، لكن أعطنا مهلة أيام قليلة كي نتفق معك ونرى، ثم يجري اتفاق بين فادي الذي أثق به وإبراهيم طنّوس”.

طلب الشيخ بيار اجتماعاً ضمّني وقادة القوات اللبنانية من دون أعضاء المكتب السياسي إستمرّ ساعة ونصف ساعة، حضرتُ منه ثلثه الأول. بانقضاء ساعة خرج رئيس الحزب من اجتماعه المنفرد بهم، معلناً اتفاقاً من ثلاث نقاط:

“ـ إطلاق يد رئيس الجمهورية في كل الشؤون السياسية والعسكرية.

ـ إقرار مبدأ دخول الجيش إلى المناطق الشرقية، وترك قرار التوقيت والتنفيذ في يد رئيس الجمهورية.

ـ المحافظة على قدرات القوات اللبنانية حفاظاً على القضية اللبنانية”.

أسهبتُ أمام القوات اللبنانية في شرح تصوّري: “وحدة بيروت ليست غاية في ذاتها، بل خطوة أولى نحو ترسيخ الحكم والسلطة. لبنان لم يتفكك دفعة واحدة، ولذا يجب توحيده على مراحل بدءاً ببيروت. عند توحيد العاصمة يستعيد الحكم صدقيته وإمكان تحرّكه، ويشير إلى ما ستكون عليه البلاد في إمرة السلطة الشرعية. المناطق الغربية تلوّعت من الإحتلالات، ولذا نشاهد ردّ فعل وطني ونتوقّع أن تتعاون هذه المناطق معنا. ينبغي أيضاً زيادة عديد القوة المتعدّدة الجنسية كي تصل إلى 15 أو 20 ألفاً، ناهيك بأن خدمة العلم ستوفّر عناصر جدداً لإقامة ثكن متمركزة في المناطق ومؤلفة من أبناء هذه المناطق بالذات”.

 

الخطة المستعصية

في الإنتظار، أخذ الضبّاط الإسرائيليون يذكون نار الفتنة في الجبل. الإستعدادات للعملية تعثّرت جرّاء إشتباكات بين الميليشيات الدرزية والقوات اللبنانية أوقعت 20 قتيلاً في عاليه، وكلّفت هذه الأخيرة خسارة موقعها. كان ذلك مثابة إشارة منذرة بإعادة خلط الأوراق الإسرائيلية في الجبل الذي كانت القوات اللبنانية وميليشيات وليد جنبلاط تتنازعان السيطرة عليه. في معركة الحيّ الغربي لمدينة عاليه الواقعة على نحو 20 كيلومتراً من بيروت، شهدنا ـ خلافاً لكل التوقّعات ـ دعماً مباشراً من الجيش الإسرائيلي للدروز، حلفاء سوريا، إنتهت بإنسحاب القوات اللبنانية من المدينة.

في الوقت الذي كنت أبذل جهوداً كبيرة لإقناع الفريق الذي أنتمي إليه، حاذرتُ تجاهل العاملَين السوري والفلسطيني. القوات السورية كانت قد انكفأت إلى المناطق المتاخمة للعاصمة التي لم يدخلها الجيش الإسرائيلي، كان على أي عملية أمنية أن تأخذ وجودها في الإعتبار.

أما الأميركيون الذين كانوا في البداية يؤيّدون “عملية بيروت الكبرى”، فاقترحوا تأجيلها متذرّعين بالوضع الميداني الغامض. راح ديبلوماسيّوهم، في أحاديثهم واتصالاتهم، يشكّكون في نجاح الخطة، ويتعمّدون التشويش عليها أمام محاوريهم. عقدتُ في منزلي اجتماعاً عاصفاً مع السفير روبرت ديلون، في حضور موريس درايبر ممثّل الرئيس ريغن ووزير الخارجية اللبناني إيلي سالم وبعض المستشارين. كنا نأمل في الحصول على موقف أميركي واضح. لكن، بلا طائل. ذاك أن محاورينا أعطونا الإنطباع بأن الأمر ليس في يدهم، وبدا أن موقف بعض المسؤولين الإسرائيليين الذين لا يُعلّقون على المطالب الأميركية أي أهميّة تعيق عملهم. فضلاً عن ذلك، أفادني أحد تقارير لجنة الإرتباط أن الجنرال الإسرائيلي إينان، المولج التنسيق العسكري مع الجيش اللبناني، أشار لدى التطرّق إلى دخول الجيش اللبناني إلى بيروت الشرقية إلى “حقّ” الجيش الإسرائيلي في حرّية التنقّل عندنا، مؤكداً أنه يتوقّع “إشكالات” مع قوانا المسلحة. في وقت لاحق، أعاد الجنرال إينان الكرّة فطالب، من أجل “السماح” لجنودنا بالإنتشار، بأن يُعقد اجتماع مسبق بين مسؤولين سياسيين وعسكريين كبار من كلا البلدين. غنيٌّ عن القول إن مثل هذه المبادرة، وخصوصاً عقد لقاء سياسي الطابع رفيع المستوى كما تطالب به إسرائيل، سيُلحق ضرراً كبيراً بتماسكنا الوطني، كما بعلاقاتنا مع البلدان العربية.

الأخبار التي كانت تصل إليَّ من جبل الشوف الواقع تحت الإحتلال الإسرائيلي مثيرة للقلق. الشيخ محمد أبوشقرا، شيخ عقل الطائفة الدرزية، الذي هو رجل حكيم معتدل، وكان قد أكد لي دعمه الكامل عقب انتخابي، بدأ فجأة يميل إلى مواقف معادية، محاولاً إقناع القادة الروحيين الآخرين بمجاراته في معارضة منهجية الحكم. أرسلتُ عدداً من الموفدين إلى المنطقة، لكنني أدركتُ أن الرهانات كانت تفوق قدرته وتتخطّى الإطار المحلي. مذذاك، كان في الإمكان أن نتلمّس توافق المصالح أو دلائل التواطؤ الموضوعي بين السوريين والإسرائيليين، الأمر الذي كان يصعب على اللبنانيين تصوّره.

أخبرني إيلي سالم، بعد لقاءين عقدهما ـ بناء على طلبي ـ مع القائم بالأعمال الأميركي في بيروت روبرت بيو والسفير البريطاني ديفيد روبرتس في 5 آذار 1983، ما سمعه منهما بإزاء التشنّج المتنامي في الجبل. قال له بيو: “إتصل بي السيّد مروان حمادة وطلب مني أن اجتمع بشيخ العقل أبوشقرا الذي قال لي: الطائفة الدرزية متّحدة. جنبلاط وأرسلان وشيخ العقل متّفقون عل خطة سياسية موحّدة. نريد أن نُستَشَار قبل دخول الجيش اللبناني إلى الشوف. الدروز غير مستعدّين لتسليم أسلحتهم إلى الجيش اللبناني قبل أن تُسلّم القوات اللبنانية أسلحتها”. أما روبرتس الذي اجتمع بدوره بأبوشقرا، فقال لسالم: “الدروز لا يريدون دخول الجيش اللبناني إلى الشوف، إلا بموافقة الطائفة ممثّلة بشيخ العقل وحلفائه. بصفة شخصية، وعلى نحو سرّي، أعتقد أن مروان حمادة هو المسؤول عن جمع جنبلاط وأبوشقرا وأرسلان، وعن التطوّر السلبي في الطائفة الدرزية. هذا الرجل ينصح دائماً بالمواقف المتشدّدة على أمل في التوصّل إلى اتفاق أفضل”.

بدوره الزعيم الديني للطائفة الشيعية الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي التقيتُ به يوم 17 شباط، كان واعياً الأخطار التي كانت تتربّص بنا. حاول المساعدة على إيجاد تسوية بين اللبنانيين. وقد وردت معلومات عن إدخال أسلحة من سوريا إلى ميليشيا وليد جنبلاط، علماً أنها متمركزة في منطقة خاضعة للإحتلال الإسرائيلي. لم يعد ثمّة شكّ في وجود تنسيق بين الطرفين. من المفارقات الأخرى أن البلدان الأوروبية، المشاركة في القوة المتعدّدة الجنسية، التي كانت في البداية متحفّظة عن خطة بيروت الكبرى، باتت أكثر إيجابية. أراد الفرنسيون والإيطاليون منحنا فرصة، ووافقوا على الإنتشار إلى جانب الجيش اللبناني على حواجز العاصمة، بشطريها الشرقي والغربي.

قبل إطلاق العملية، كان لا بدّ من إزالة العائق الكبير المتمثّل في مرفأ بيروت، الخاضع لسيطرة القوات اللبنانية، وكان يؤمّن لها المبلغ الأساسي لتمويل نشاطاتها. كان يتعيّن على الدولة قطعاً أن تستعيد هذه المرافق، وأن تعيد إليها دوائرها الجمركية الغائبة منذ سنوات، سواء لتغذية الخزينة العامة أو للحفاظ على هيبتها وصدقيتها في الخارج. كان ذلك شرطاً لازماً لتسريع المساعدات الموعودة من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية وفرنسا وإيطاليا والبنك الدولي وأصدقائنا جميعهم الذين كانوا يرفضون إعانتنا قبل أن نعيد الإمساك بماليتنا العامة. إلا أن الميليشيات، المتذرّعة بضرورات المعركة، كانت ترفض التنازل عن مكتسباتها، لاسيّما عائدات المرفأ. فكيف كان في وسع حكومتي أن تفرض سلطتها على كل الأراضي اللبنانية، في وقت كنت عاجزاً عن فرضها على المناطق الشرقية المعتبرة موالية لي؟

بالاتفاق مع رئيس الحكومة شفيق الوزان، توصّلنا إلى تسوية سرّية مؤقتة مع القوات اللبنانية، تقضي بأن يُدفع لها مبلغ مقطوع في مقابل إخلائها المرفأ. مع حصول ذلك، صار في مقدورنا أخيراً أن نحدّد موعداً لنشر الجيش في أحياء العاصمة، وخصوصاً في محيط المرفأ. لم يصدّق شفيق الوزان ووزير المال عادل حميّة أن الأمر تم فعلاً، لأن أحداً لم يكن يراهن على نجاح مشروعنا. منذ اليوم الأول، حصّلت مالية الدولة مبالغ مهمة من العائدات الجمركية لمرفأ بيروت. تلك كانت نعمة غير منتظرة بالنسبة إلى الخزينة العامة التي أتاح لها هذا المبلغ أن تعيد تشغيل دوائرها الخاصة. كان من البديهي أن أغتبط بهذه التسوية المؤقتة التي لاقت ردود فعل إيجابية حيّت الإنتصار غير المتوقّع للدولة اللبنانية.

بدأ إنتشار الجيش في 14 شباط، بعد ساعات من عقد اجتماع إستثنائي لمجلس الوزراء تقرّر فيه “تكليف الجيش اللبناني الحفاظ على أمن بيروت الكبرى”. أشرفتُ شخصياً على العملية بصحبة رئيس الحكومة وقائد الجيش ورئيس الأركان، وقد فوجئتُ بإتمامها من دون إشكالات. لا محاذير الشيخ بيار، ولا تحفّظات القوات اللبنانية، ولا التشكيك الأميركي، ولا العرقلة الإسرائيلية، كانت تحملني على توقّع مثل هذا السيناريو. ظهرت في شوارع العاصمة كلها مصفحاتٌ منظّفة بعناية، يحوط بها جنود في زيّ عسكري خال من العيوب وبمعنويات عالية، فيما كانت عناصر الشرطة تتولى حماية مداخل بيروت.

مشهدٌ لم يكن اللبنانيون قد أبصروه منذ عام 1975.

أما مع منظمة التحرير الفلسطينية، فكانت الاجتماعات متتالية في لبنان والخارج. صحيح أن الميليشيات الفلسطينية أُجبرت على مغادرة العاصمة وجنوب لبنان، لكنها حافظت على وجودها العسكري في البقاع الشرقي وشمال البلاد. كنت في حاجة إلى الإبقاء على الحوار مع قيادتها.

ذهبتُ إلى المؤتمر السابع لدول عدم الإنحياز في نيودلهي ما بين 7 آذار 1983 و11 منه، للمشاركة في أعماله كرئيس للبنان، لكن أيضاً بقصد إجراء إتصالات جديدة، فأثمرت تواصلاً مع السوريين والفلسطينيين. الأبرز إشتمال توصيات المؤتمر على الدعوة إلى انسحاب القوات الأجنبية كلها من لبنان، التي لا يتوافر لها مسوّغ شرعي، وتأكيد حياد هذا البلد وعدم إرتباطه بأي محور. ألقيتُ في المؤتمر كلمة أكدتُ فيها أن لبنان ـ الذي هو همزة وصل ـ وطن الإنفتاح الكامل لكل الدول المُحبة للسلام التي ترغب في قيام علاقات طيّبة معه.

هناك إلتقيتُ ياسر عرفات وأجرينا مراجعة للعلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية. بادىء بدء حضر إليَّ شفيق الحوت في 9 آذار، عارضاً عليَّ الاجتماع بالزعيم الفلسطيني، فأجبته بالموافقة إذا كانت ثمّة نتيجة مفيدة منه. سرعان ما عاد بجواب مفاده أن هامش المناورة ضيّق بين يدي عرفات، في ظلّ الضغوط السورية عليه وقبضها على كل المفاصل. لا يسعه بذلك التقدّم بأي خطوة لإثبات مقدرته على التزام تطبيقها. غضضتُ النظر عن هذا اللقاء. على أنني اجتمعتُ به اليوم التالي 10 آذار تحت وطأة الإلحاح.

إستمرّ اللقاء ساعة في بهو الفندق، في حضور رئيس الحكومة شفيق الوزّان الذي تولى الحديث مع عرفات أكثر مني. إقترح عليَّ الزعيم الفلسطيني إعادة فتح مكتب لمنظمة التحرير في بيروت، فردّ الوزّان بأن الوقت غير ملائم، ولا بدّ من الإنتظار بعض الوقت. طلب تأليف لجنة مشتركة لبنانية ـ فلسطينية، فكان جوابنا معاً أنها سابقة لأوانها.

عرضتُ له موقفي بصراحة، قائلاً: “ليست القضية الفلسطينية وحدها التي تكبّدت خسائر. لبنان الذي تعرّض إلى إحتلالات شتى، يوشك على أن يفقد كل شيء. هذه فرصة للتعاضد بين شعبينا. ينبغي على منظمة التحرير الفلسطينية أن لا تفرض شروطاً لسحب ما تبقّى من قواتها من لبنان، بغية تسهيل إنسحاب الجيش الإسرائيلي. حين يكون لبنان قوياً، يترافع على وجه أفضل في سبيل حلّ عادل ومنصف للقضية الفلسطينية”.

أضفت أنني لا أرى فائدة في التفاوض على اتفاقات جديدة مثل اتفاق القاهرة عام 1969، ثم بروتوكول ملكارت عام 1973 لتفسير اتفاق القاهرة، “لكننا على استعداد لإعطاء ضمانات لجميع الفلسطينيين الذين يعيشون في لبنان، ويحترمون القوانين والأنظمة اللبنانية”.

أصغى عرفات باهتمام إلى كلامي، وتفاعل معه بإيجابية. مع أن خطابه الرسمي في المؤتمر كان حادّ اللهجة، لكنه لم يتضمّن أي انتقاد للبنان. لدى تطرّقه إلى مجازر صبرا وشاتيلا، لم يهاجم سوى الإسرائيليين والأميركيين، ممتنعاً عن الإشارة إلى تورّط أي طرف لبناني. رأى كثيرون من المراقبين في هذا الموقف إنفتاحاً على قيادتنا.

على مسافة قريبة مني في البهو، جلس وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل الذي بدا مهتماً باجتماعي بعرفات. ليومين مضيا، مساء 8 آذار، اجتمعت به في حضور شفيق الوزّان وإيلي سالم. شرحتُ للفيصل السياسة الخارجية للعهد، وأبديتُ كل ترحيب بالاجتماع مع نظيري السوري والتنسيق الكامل معه، على أنني أكدتُ أننا في مفاوضاتنا مع إسرائيل “لا نساوي بينها وبين سوريا التي نأمل منها في مساعدتنا على تحقيق الإنسحابات كلها”. لفته إلى تلقّيَّ رسالة من الرئيس الأسد ردّاً على رسالتي إليه لم يُشر فيها مباشرة إلى انسحاب جيشه وطريقة تنفيذه “رغم تأكيده مساعدة لبنان، وعلى الأخص مساعدته على تحقيق الانسحاب الكامل”.

قلت أيضاً: “نحن الآن في سباق مع الوقت. تريد إسرائيل الدخول إلى العالم العربي ككل عبر لبنان، تريد التطبيع قبل التوقيع. تقدّم الأسلحة في الشوف إلى الفريقين الماروني والدرزي لإثارة الفتنة. النعرات الطائفية التي تغذّيها إسرائيل في الشوف قد تؤدّي إلى شلال من الدم. من المؤسف أن المناطق اللبنانية الواقعة تحت تأثير السوريين والإسرائيليين تعاني المشكلات نفسها. ثمّة توافق في التعامل، ونخشى من مؤامرة تزعزع الكيان اللبناني. أميركا ملتزمة معنا، ولا تفرض علينا ما لا نقبل به، لكن هذا التأييد لم ينعكس بعد إيجاباً على لبنان. نحتاج أيضاً إلى الدعم العربي للحؤول دون تفتيت لبنان. يبدو أن أميركا لا تؤثّر كثيراً على إسرائيل. الدليل على ذلك أن السفير فيليب حبيب حدّد تاريخين للانسحاب الإسرائيلي، لكنه لم يتم”.

قال الرئيس الوزّان: “سألت السفير حبيب أكثر من مرّة هل أن أميركا مستعدّة للضغط على إسرائيل، فأجابني أنها لن تضغط أكثر ممّا تضغط الآن، كما لا يمكنها التخلي عنها”.

عقّب الفيصل: “التحرّك نحو أميركا ضروري جداً لأن الأميركيين ينسون بسرعة. يقولون لنا إنهم جادون، وثمّة ما يبرّر تفاؤلهم، لكن الوقت يطول. قالوا لنا إن الإنسحاب سيكون قبل نهاية كانون الأول. تقول لنا أميركا إنها تؤيّد لبنان كلياً، ونحن لم نلمس حتى الآن أي تردّد في هذا المجال”.

سألته عن المعطيات المتوافرة لديه بإزاء موقف سوريا، فأجابني: “سوريا تؤكد إستعدادها للإنسحاب الكلي من لبنان، وهذا كل ما هو مطلوب منها الآن”.

قال له الوزّان إن لبنان “يميّز دائماً بين الانسحاب السوري والانسحاب الإسرائيلي. يحتاج إلى عنصر جديد لنكسر به المواقف الإسرائيلية. إذا انسحب 5000 جندي سوري من طرابلس مثلاً قد يساعد على تحريك المفاوضات مع إسرائيل”.

 

أول حوار مع الأسد

أتاح لي مؤتمر نيودلهي إجراء أول حوار مباشر، وأول لقاء منذ انتخابي، بالرئيس السوري في جلستي عمل في 9 آذار و10 منه، في جناحه في الفندق، سادهما جوّ من اللطف واللياقة.

في طريق عودتي بالطائرة من نيودلهي إلى بيروت، أكببتُ على تدوين محضري الاجتماعين في سجل يومياتي:

“زرتُ الأسد في جناحه، وكان استقباله لي ودّياً ولطيفاً. واثق من نفسه، ومن مقدرته على إظهار طيبته. أعطاني إنطباعاً بأن لا هدف له سوى مساعدة لبنان، هذا البلد الصديق الذي لا يفهمه أحد كما قال، وهو ينظر إلى مصلحة لبنان فوق أي إعتبار آخر. ذكر ان تدخّله عام 1976 كان بناء على إلحاح الشيخ بيار الجميّل والزحليين وأهل الشمال. أضاف أن ذلك كان تضحية كبيرة لسوريا والجيش السوري.

بدوري حاولتُ إفهامه أنه قد حان الأوان لإجراء مصالحة وطنية في لبنان، لأن الشعب اللبناني يريد السلام، بمَن فيهم المراهنون على الخيار الإسرائيلي الذين بدأوا يفقدون الثقة بفوائده، وخصوصاً المسيحيون منهم. قلت إن على سوريا الإستفادة من هذا الواقع الجديد لفتح صفحة مختلفة وجديدة. أنا على استعداد للعمل على تعزيز هذا الرهان وإرساء العلاقات اللبنانية ـ السورية على أسس إيجابية جديدة.

تحدّثتُ عن ممارسات على الأرض في عدد من المناطق، كالبقاع وخصوصاً بعلبك، وهي منطقة نفوذ سوري كبير، يتعرّض فيها الجيش اللبناني إلى كمائن واغتيالات كبّدته خسائر في أرواح ضبّاطه وعسكرييه، على مقربة من الحواجز السورية.

كان جوابه أنه أمر بإعدام الجناة المتورّطين في هذه الإعتداءات.

بقيت الأمور على حالها، إلا أننا إتفقنا على معاودة اللقاء في اليوم التالي صباحاً.

حضر الاجتماع الثاني مع الرئيس الأسد، في جناحه في 10 آذار، رئيس الحكومة وإيلي سالم وغسّان تويني وجان عبيد ووزير الخارجية السوري عبدالحليم خدّام. إستمرّ ساعة ونصف الساعة، لم نكمله بسبب إرتباط الرئيس السوري بموعد سابق مع نظيره الجزائري الشاذلي بن جديد.

في المستهل مجاملات وأحاديث عامة. أسهب في الكلام عن الثقافة الهندية والديانة المسالمة للهنود في هذه المنطقة من العالم كما قال، القائمة على قيم سماوية مبنية على الإحترام المتبادل. تحدّثنا عن الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، حليف العرب الذي يعرفه، وسأل هل اعتنق الإسلام؟ ثم دخلنا في الكلام السياسي. بعدما كرّرتُ عليه ما أثرته في اليوم السابق عن الإعتداءات والتسيّب الجاري في البقاع، في منطقة نفوذ جيشه، تكلمنا عن مفاوضاتنا مع إسرائيل. قلت إن ليس ثمّة أمر جدّي بعد، وسأواصل تزويده كل المعلومات من خلال جان عبيد، موفدي إليه.

أضفت: الإسرائيليون يراوغون ويماطلون، كأنهم غير مستعجلين. هذه المماطلة باتت مزعجة على الأراضي اللبنانية بسبب إنعكاساتها الخطيرة على المجتمع اللبناني، وأخشى أن تصبح المعالجة صعبة في المستقبل، خصوصاً وأن إسرائيل تؤلب لاسيّما الدروز ضدّ المسيحيين، والعكس صحيح. تحرّض المكوّنات اللبنانية بعضها ضدّ بعض، وهذا حدث متقدّم.

قلت أيضاً إن احتلال جنوب لبنان لا يشبه احتلال الجولان وسيناء كونه يتلاعب بالتركيبة اللبنانية الحسّاسة، المبنية على طوائفه وتداخلها مع الجغرافيا، ما يؤدي إلى انعكاسات على الكيان اللبناني.

جواب الرئيس السوري كان الإصغاء وهزّ رأسه كأنه يوحي بالموافقة. بدا كأبي الهول لا يتزحزح. تحدّث عن أخطار في المفاوضات مع إسرائيل التي، بحسب قوله، لا تعرف سوى أن تأخذ من دون أن تعطي، ولا يمكن وضع اليد في يدها. لم يعترض أو يُفصح عن إشارة سلبية إلى مسار المفاوضات. لكنه قال: إذا كنتم تريدون التفاوض معها تفضّلوا. لكن من الآن أقول إن لا نتيجة من المفاوضة معها.

أثنى على مواقفي، وأظهر عاطفة وثقة بإزاء إدارتي شؤون البلاد، من دون أن يُقدم على أي خطوة ملموسة حيال الإنسحاب السوري الذي من شأنه تسهيل المفاوضات مع إسرائيل، في حال تقدّمت دمشق بأي إجراءات كإعلان نيّات على الأقلّ. لم يعطِ الأسد أيّ جواب أو يلمّح إلى استجابة، ما عكس عدم ترحيبه بما سردته عليه.

قال إن وجود جيشه في لبنان نوع من التوازن الإسترتيجي بين سوريا وإسرائيل. إعتبر تجميع قواته خطراً يتسبّب في تعريض الجيش السوري إلى أن يكون هدفاً للطيران الإسرائيلي. بذلك لم يقدّم أي إضافة ذات مغزى، مجدية وإيجابية.

لتبرير بقاء الجيش السوري في لبنان وعدم التفكير في انسحابه، قال إن لديه معلومات عن وجود إسرائيلي في جونيه وأفقا، من دون ان أعرف كيف خطرت له أفقا في أعالي جرود جبيل؟

دعاني إلى تسهيل مهمته من خلال تعزيز العلاقات مع الأطراف اللبنانيين المعارضين، والإنفتاح على كل القوى، وخصّ بالذكر الحزب السوري القومي الاجتماعي، ربما بسبب تورّط هذا الحزب في اغتيال شقيقي بشير، كأنه يدعوني إلى تجاهل ما حصل.

لم يظهر لي معادياً الأميركيين، بل في غاية الإعتدال في الكلام عنهم، قائلاً إن من المفيد الاجتماع بهم، لكن تأثير اليهود كبير عليهم. بكثير من الودّ تكلّم عن الرئيس المصري حسني مبارك، وقال إنه رفيقه على مقاعد دورة عسكرية في سلاح الطيران، كان يجريها في القاهرة في مطلع الستينات. تبعاً لذلك تجمعهما صداقة وطيدة، مع أن الظروف تعاكس الرئيس المصري كما قال”.

في حصيلة إنطباعاتي عن الحوار مع الأسد، أن من المتعذّر الوصول إلى أي نتيجة إيجابية من جرّاء الإفراط في المجاملات والنيّات الحسنة والإستعداد الطيّب. ما استنتجته ـ كما دوّنتُ في سجلّ يومياتي في طريق العودة ـ أن الرئيس السوري، في أول لقاء لنا، لم يكن على قدر توقّعاتي.

كنت عقدتُ معه خلوة قصيرة إقتصرت على كلينا بعد الاجتماع الموسّع، لفتني فيها إلى “ضرورة التنبّه وأخذ الحيطة لأن الإسرائيليين خطيرون للغاية”.

يقتضي أن أكتب في سجلّ يومياتي أن الرئيس الوزّان كان “ذروة في الإنفتاح والتفهّم والإنسجام. يجيب عني في محادثاتي مع المسؤولين العرب عندما يشعر بإحراجي، فيسهّل المخرج الملائم. متعاون إلى أقصى حدود. عزّز وجهة النظر الرسمية اللبنانية، وأبرَزَني محاوراً لهؤلاء بإسم لبنان كله، وليس فريقاً فيه، وثبّت وحدة موقف الحكم اللبناني”.

في 30 آذار كتبتُ إلى الرئيس السوري مقدّراً اللقاء الذي جمعنا في نيودلهي “الذي لا يعني أننا في حاجة إلى الصدف والظروف كي نستمرّ في التعاون والتشاور، خدمة لبلدينا اللذين تربط بينهما أواصر حسن الجوار والإحترام المتبادل”.

15 كانون الأول 1982 الرسالة الأولى يوجّهها الرئيس أمين الجميّل إلى الرئيس حافظ الأسد. (صفحتان)

16 كانون الأول 1982 الرسالة الجوابية من الرئيس حافظ الأسد إلى الرئيس أمين الجميّل تؤكد دعمه له وإستعداده المساعدة والتعاون.

10 آذار 1983 سجلّ يوميات الرئيس أمين الجميّل عن اللقاء الأول بالرئيس حافظ الأسد في قمّة دول عدم الإنحياز في نيودلهي.