المصدر: الراي الكويتية
الغزو الإسرائيلي للبنان… الديناميات العسكرية والأهداف الإستراتيجية وفي هذه الحال قد يبلغ صيدا
دخلت المواجهات العسكرية بين إسرائيل و«حزب الله» مرحلةً جديدةً مع إعلان تل أبيب بدء غزو جنوب لبنان في صباح الأول من أكتوبر.
ورغم ترويج إسرائيل أن هذا الغزو هو عملية محدودة، إلا أنه يشير إلى هدف استراتيجي أوسع يرمي إلى تفكيك القوة العسكرية للحزب وفرْض السيطرة الإسرائيلية على مناطق رئيسية في لبنان.
وتمثل العملية، التي بدأت بالفعل، هجوماً منسّقاً يشمل الطيف الكامل للقوات العسكرية تشارك فيه الوحدات الجوية والبحرية والبرية بهدفٍ نهائي لا يقتصر على تأمين المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني فحسب، بل قد تتقدّم شمالاً في مرحلة لاحقة، اعتماداً على أداء «حزب الله» والفرصة المتاحة للغزاة الإسرائيليين.
ومع ذلك، من غير المرجح أن يتحقق هدف إسرائيل المتمثل في إزالة «حزب الله» من جنوب لبنان. فالحزب ليس مجرد قوة مقاومة عسكرية منظّمة، وأعضاؤه مندمجون بعمقٍ في السكان المحليين، الذين يحملون ولاءً شبه كامل له.
ومن خلال احتلال جزء من لبنان، فإن إسرائيل تساهم في تعزيز سبب وجود الحزب كمدافع عن سيادة لبنان وإضفاء شرعية على دوره.
تبلغ المسافة بين الحدود اللبنانية – الإسرائيلية وصيدا بين 40 و45 كيلومتراً، اعتماداً على الطريق المحدَّد المتَّخَذ.
ويغطي هذا الامتداد مناطق إستراتيجية رئيسية، بما في ذلك نهر الليطاني الذي كان منذ فترة طويلة حدوداً طبيعية في جنوب لبنان ويشكل محوراً للتخطيط العسكري في المنطقة.
قوات الحزب وقدراته
تشكل الوحدات النخبوية الثلاث للحزب: نصر، عزيز، وبدر، أهمية بالغة لاستراتيجيته الدفاعية في الجنوب. ويغطي هذا الانتشار تضاريس حيوية من الحدود إلى صيدا.
تتمركز «نصر» في الشرق، و«عزيز» في الغرب بالقرب من الساحل، و«بدر» بين نهر الليطاني وصيدا.
في الأسابيع القليلة الماضية، شنت إسرائيل حملة قصف جوي مكثفة عبر وادي البقاع وجنوب لبنان، مستهدفة البنية التحتية الصاروخية للحزب. وقد أسفر هذا الهجوم عن تدمير ما يقارب 60 في المئة من قدرته الصاروخية فوق الأرض، الأمر الذي أثّر بشكل كبير على قوته النارية المباشرة.
ورغم ذلك، يحتفظ الحزب بنحو 40 في المئة من أنظمة الصواريخ فوق الأرض والتي لا تزال تشكل تهديداً كبيراً.
إضافة إلى ذلك، تظل مخزوناته من الصواريخ تحت الأرض سليمة، ما يحافظ على جزء كبير من ترسانته من الصواريخ بعيدة المدى والمتقدّمة. وهذه المَرافق تحت الأرض محصَّنة بشكل كبير ومصمَّمة لتحمُّل الهجمات الجوية، ما يجعل من الصعب على إسرائيل تدميرها من خلال القصف التقليدي.
الهدف العسكري
نظراً لاعتماد الحزب على هذه الوحدات في العمليات الدفاعية والصاروخية، فإن إسرائيل ستحاول بلا شك القضاء عليها.
والتركيز سيكون على تحييد قدرة الحزب على الرد، علماً أن النجاح غير مضمون بسبب المواقع الاستراتيجية التي يتخذها والتضاريس الوعرة التي يمكن الدفاع عنها.
وفي جنوب الليطاني، تحرس وحدتا نصر وعزيز القطاعيْن الشرقي والغربي. ومن المرجح أن تستهدف إسرائيل هذه المواقع بضربات برية وجوية منسَّقة، بهدف عزْل وقطْع خطوط إمدادها.
وفي شمال الليطاني: تحمي «بدر» الطريق المؤدي إلى صيدا. وأي محاولة إسرائيلية للتقدم ستتطلب تحييد هذه الوحدة لتأمين المزيد من التوغلات شمالاً.
الإستراتيجية
يشتمل الهدف العام لإسرائيل على تحييد الوحدات الثلاث لإضعاف القوة العسكرية للحزب. وقد ينطوي هذا على:
– ضربات متزامنة على مواقع رئيسية.
– تعطيل طرق الإمداد بين نهر الليطاني وصيدا.
– حركات كمّاشة تهدف إلى عزل القوات الخاصة.
ولكن دفاعات الحزب القوية ـ مثل المخابئ تحت الأرض والمواقع المموَّهة ـ في هذه المنطقة التي تمتدّ على مساحة 40 إلى 45 كيلومتراً ستجعل المهمة صعبة.
وفي حين أن هدف إسرائيل واضح، فإن فرصَ تحييد هذه القوات بالكامل تظل غير مؤكدة بسبب القدرات الدفاعية لـ «حزب الله».
قوة الغزو
حشدت إسرائيل واحدة من أكبر القوات العسكرية في التاريخ الحديث لهذا الغزو، ونشرت قوة تقدر بما بين 80 ألفاً و100 ألف جندي، مدعومةً بمجموعة متنوعة من الأصول العسكرية. ويشمل هيكل القوة التي تضم 18 لواء:
– القوات الخاصة ووحدات الكوماندوس:
تتمتع هذه الوحدات النخبوية بتدريب عال على التسلل والتنقل السريع والقتال عن قرب. وستلعب دوراً محورياً في مواجهة الحزب.
– ألوية المشاة:
ستكون وحدات المشاة مسؤولةً عن تأمين المواقع الرئيسية والاشتباك مع الحزب في القتال المباشر. وستعمل عن كثَب مع الوحدات المُدرَّعة لضمان تطهير المواقع الاستراتيجية والسيطرة عليها.
– الألوية المدرعة:
توفّر الفرق المدرّعة، المجهّزة بدبابات «ميركافا»، قوةَ نيران متحركة هائلة ومصمَّمة للدفع عبر المناطق المحمية بشدّة.
وستقود هذه الدبابات التقدمَ من منطقة المطلة نحو نهر الليطاني وما بعده، ما يمهد الطريق للمشاة والوحدات الميكانيكية.
– الألوية الميكانيكية:
تؤمّن هذه الوحدات، المسلّحة بناقلات الجند المدرَّعة وغيرها من الأصول الميكانيكية، قدراتٍ هجوميةً ودفاعيةً، وتتيح تحريكَ القوات بسرعة إلى المناطق المتنازَع عليها وتوفير الحماية من تكتيكات حرب العصابات التي ينتهجها «حزب الله».
وتلعب القواتُ الجوية دوراً حاسماً في هذا الغزو، حيث توفّر التفوقَ الجوي وتنفّذ ضرباتٍ دقيقةً على البنية التحتية للحزب ومراكز القيادة ووحدات الصواريخ وخطوط الإمداد الرئيسية.
وستراقب الطائرات من دون طيار والطائرات والمقاتلات تحركات «حزب الله» من الأعلى، ما يضمن عمل القوات البرية وفق معلومات استخباراتية في الوقت الفعلي.
ويمكن للبحرية أيضاً المشاركة بنشاطٍ، والسيطرة على ساحل البحر المتوسط، ومنْع التعزيزات من الوصول عن طريق البحر، وتقديم الدعم الناري البحري للعمليات البرية.
وستعتمد مشاركة البحرية على قدرات «حزب الله» على السطح لإبعاده أو السماح له بالمشاركة في المعركة.
أهمية الليطاني الإستراتيجية
يشكل نهر الليطاني حدوداً جغرافية طبيعية في جنوب لبنان، وتركّز الأهداف الأولية لإسرائيل على تأمين الأراضي الواقعة جنوب النهر.
وكانت هذه المنطقة منذ فترة طويلة معقلاً استراتيجياً لـ «حزب الله»، بشبكتها من المخابئ تحت الأرض والمواقع المحصّنة.
وتمتدّ المنطقة الواقعة بين الحدود اللبنانية ونهر الليطاني لمسافة 29 – 30 كيلومتراً، وتشكل أهمية بالغة بالنسبة لاستراتيجية إسرائيل الرامية إلى قطْع خطوط إمداد الحزب ومحاصرة وحداته من القوات الخاصة المتمركزة حالياً جنوب النهر.
والواقع أن الحجم الهائل للأرض التي تسعى إسرائيل إلى السيطرة عليها، إلى جانب تضاريسها المعقدة، يعني أن هذه العملية لا تقتصر على مناوشة حدودية بسيطة، بل إنها إستراتيجية غزوٍ طويلة الأمد قد تستمر لأسابيع، إن لم يكن أشهراً، اعتماداً على المقاومة.
وتشكّل المطلة، الواقعة قرب الحدود، نقطَة انطلاقٍ للغزو. وهي تقع في موقع استراتيجي لإطلاق هجمات بالمدرعات والمشاة على جنوب لبنان. والتضاريس في هذه المنطقة وعرة، بحيث توفر المناطق الجبلية للحزب فرصاً لنصب الكمائن وشنّ حرب العصابات، ولكنها تقدّم أيضاً للقوات الإسرائيلية تحديات لوجستية في ما يتصل بتحريك الوحدات الآلية.
ومفتاح تَقَدُّم إسرائيل هو حركة الكمّاشة من الشرق إلى الغرب: حيث ستتقدم القوات من المطلة نحو نهر الليطاني لتأمين نقاط العبور الرئيسية ومنْع أي محاولات من جانب «حزب الله» للتراجع شمالاً.
وفي الوقت نفسه، ستندفع القوات الإسرائيلية غرباً نحو الساحل لعزل مقاتلي الحزب واحتجازهم، وإيجاد منطقة قتل حيث يمكن للقوات الإسرائيلية تحييد مقاتلي «حزب الله» وبنيته التحتية في شكل منهجي.
ما وراء نهر الليطاني
العملية الإسرائيلية بعيدة كل البُعد عن كونها محدودة.
فإذا نجحتْ القوات الإسرائيلية في تحييد وحدتيْ القوات الخاصة لـ «حزب الله» المتمركزتين جنوب الليطاني، فإن المرحلة التالية من العملية ستشمل التحرك شمال النهر للقضاء على الوحدة المتمركزة هناك.
وهذه الوحدة، المعزولة جزئياً حالياً بسبب منْع إسرائيل حركة المركبات عبر الليطاني، ستكون آخِر خط دفاع منظّم في هذه المنطقة قبل أن تتمكّن إسرائيل من البدء في التقدم بشكل أعمق داخل لبنان. والواقع أنه بعد تأمين شمال نهر الليطاني، إذا نجحتْ في إحداث أضرار مقبولة، فإن القوات الإسرائيلية قد تتقدّم شمالاً نحو مدينة صيدا الإستراتيجية ونهر الأولي، وهي سمة جغرافية بالغة الأهمية. وتمثل صيدا مركزاً لوجستياً رئيسياً، والسيطرة على هذه المنطقة من شأنها أن تسمح لإسرائيل بقطع خطوط إمداد إضافية للحزب ومنع التعزيزات من التحرك جنوباً.
من هنا، فإن إستراتيجية إسرائيل بعيدة كل البعد عن أن تقتصر على عملية حدودية صغيرة النطاق، ولكنها تشير إلى غزوٍ حقيقي لجنوب لبنان. والهدف هو شلّ القدرات العسكرية للحزب بشكل حاسم، وتدمير بنيته الأساسية، وإنشاء منطقة عازلة تمتدّ إلى ما هو أبعد من نهر الليطاني.
وأحد التحديات الرئيسية التي تواجه إسرائيل في هذه العملية هو التواجد الطبيعي والعضوي للحزب في عمق المنطقة.
وتالياً مع تقدم إسرائيل إلى داخل الأراضي اللبنانية، فإنها لن تواجه مقاومة عسكرية من مقاتلي الحزب فحسب، بل وأيضاً مقاومة مدنية من المجتمعات المحلية التي نشأت على ثقافة مقاومة الاحتلال. وهذا الواقع يجعل نجاح العملية على المدى الطويل موضع شك.
النهج التكتيكي والقدرات المتقدمة
يتميز الغزو الإسرائيلي بمستوى عالٍ من التكامل بين القوات الجوية والبحرية والبرية.
وسيسمح الدعم الجوي الوثيق من المروحيات الهجومية والطائرات من دون طيار للقوات البرية بالتقدّم بدقة، واستهداف المواقع المحصّنة لـ «حزب الله».
ومن شأن استخدام تكنولوجيا المراقبة المتقدمة ـ بما في ذلك الطائرات بدون طيار وجمْع المعلومات الاستخبارية ـ أن يوفر للقوات الإسرائيلية تحديثات شبه فورية عن تحركات الحزب، ما يقلل من خطر الكمائن والهجمات المضادة. وستلعب الألوية الآلية، المسلّحة بدبابات «ميركافا» وناقلات الجنود المدرّعة من طراز «نامر»، دوراً حاسماً في التوغل في عمق الأراضي اللبنانية.
وستكون هذه الوحدات، المصمَّمة للحرب المتنقلة، مفيدةً في التقدم بسرعة عبر التضاريس الصعبة وتأمين المواقع الرئيسية قبل أن يتمكّن الحزب من إعادة تجميع صفوفه.
وستتولى الألوية المدرّعة مهمة تأمين الطرق السريعة والطرق الرئيسية المؤدية إلى الشمال، وضمان تقييد قدرة الحزب على الحركة، وعدم تمكّن التعزيزات من الوصول إلى الخطوط الأمامية.
وإضافة إلى التكتيكات العسكرية التقليدية، ستعتمد إسرائيل بشكل كبير على الحرب الإلكترونية لتشويش اتصالات «حزب الله» واعتراض إشاراته، ما يزيد من عزل المجموعة عن هيكل قيادتها. وتُشكّل قدرات الحرب الإلكترونية، أهميةً أساسية في منْع حزب الله من تنسيق الهجمات المضادة الفعّالة أو تعبئة التعزيزات من الشمال. وتُعد العملية الإسرائيلية غزواً كامل النطاق يهدف في نهاية المطاف إلى شل القدرات العسكرية للحزب، وعزل قواته، وربما توسيع السيطرة شمالاً نحو صيدا ونهر الأولي.
وستكون المعركة في جنوب لبنان طويلة وشاقة، وحتى إذا تم تحقيق الأهداف العسكرية على الأرض، فإن هذا لا يعني أن إسرائيل ستتمكّن من بلوغ أهدافها النهائية.