محلية
الخميس ٣ تموز ٢٠٢٥ - 20:41

المصدر: المدن

إقتراع غير المقيمين.. الأرقام تروي الحكاية كلَّها

جاء إعطاء اللبنانيين غير المقيمين حقّ الاقتراع في الخارج، من دون تكبّد عناء الانتقال إلى لبنان، للمرّة الأولى في انتخابات 2018، انتصارًا لنضال طويل. ولكن لأسباب عديدة، منها توازنات القوى حينذاك، وضيق الوقت، وطابع تأجيل تطبيق بعض مواده، جرى التوافق على قانون 44/2017 من دون دراسته في العمق، لا بل أُقرَّ مبتورًا حاملًا لثغراتٍ عديدة تمنع تطبيقه دون تعديل وتعرّضه للإبطال. دليلٌ إضافي على كفاءة السادة المشرّعين. أبرز هذه الثغرات اقتراع غير المقيمين وترشّح النواب في الخارج، والبطاقة الالكترونية المُمغنطة كواسطة لتطبيق الاقتراع في مكان السكن.

اليوم بدا واضحًا أن ثنائي حزب الله وحركة أمل، إضافة إلى التيار الوطني الحرّ، يقودون مع حلفائهم في “الممانعة”، معركة ضخمة لمنع الناخبين غير المقيمين من الاقتراع للمرشحين في دوائر قيدهم الأصلية أسوة باللبنانيين المقيمين. ولكن ما هي خلفيات هذه المعركة الضروس وأدواتها وعناصرها؟

بدايةً وإن كان للمعركة جانب قانوني أو تشريعي أكيد، إلا أنّ لها خلفيات سياسية أكثر جدّية وأهمية. فلطالما استُخدمَت القوانين والتشريعات في خدمة الأهداف السياسية “العليا”. وأسارع للقول أنها لعبة سياسية “مشروعة” من جميع الأطراف طالما احتُرمت قواعد اللعب، ولم يتوسّل أحد اللاعبين طُرقًا ملتوية لتغييرها أُحاديًا. فلنفصّل إذًا بهدوء الجانب القانوني-التشريعي ومن ثم الأهداف السياسية بعيدًا عن غبار المعركة، الذي يلوّث البصر والبصيرة.

من هم الناخبون في الخارج؟

من المفيد التذكير أننا، مع الأسف، لسنا في صدد السماح بالاقتراع لكلّ اللبنانيين في الانتشار أو للمنتشرين أو المغتربين، وغيرها من الصفات الفضفاضة التي يدأب البعض على إطلاقها إما جهلا أو بقصد دغدغة المشاعر لأهداف تسويقية معيّنة. لقد حدّد القانون مَن هُم الناخبون في الخارج. وهُم الواردة أسماؤهم على القوائم الانتخابية الأصلية في لبنان، الذين تسجّلوا مُسبقًا ضمن المهلة القانونية، (قبل 20 تشرين الثاني 2025)، ويملكون بطاقة هوية أو جواز سفر لبناني عادي صالح. وقد أطلق عليهم صفة “الناخبون غير المقيمين” تمييزًا لهم عن المغتربين أو المنتشرين أو غيرهم ممَّن لم يعودوا مسجّلين في القوائم الانتخابية الأصلية. 

تسجّل منهم لانتخابات  2022 ووردت أسماءهم في القوائم المستقلّة 225,114 ناخبًا، اقترع فعليًا منهم 141,575 ناخبًا أي ما نسبته 63%. فيما بلغ عدد الناخبين في لبنان 3,741,883 ناخبًا اقترع منهم فعليًا 1,810,108 أي ما نسبته 48%. 

هذه السنة 2025، يبلغ عدد الناخبين (من دون تسجيل الخارج) بحسب مديرية الأحوال الشخصية 4,093,663 ناخبًا (2,003,440 ذكور و2,090,223 إناث). بانتظار تسجيل غير المقيمين الذي تنتهي مهلته في 20 تشرين الثاني لتصبح الأرقام نهائية.

خلفية قانونية

جاء في المادة 122 من قانون الانتخاب الحالي النافذ 44/2017 تحت عنوان “في المقاعد الستة المخصَّصة لغير المقيمين”: 

“تُضاف ستة مقاعد لغير المقيمين الى عدد أعضاء مجلس النواب ليصبح 134 عضواً في الدورة الانتخابية التي سوف تلي الدورة الانتخابية الأولى التي ستجري وفق هذا القانون. في الدورة اللاحقة يخفض ستة مقاعد من عدد أعضاء مجلس النواب ال128 من نفس الطوائف التي خصصت لغير المقيمين في المادة 112 من هذا القانون وذلك بمرسوم يُتخَذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير.”

وفي المادة 124 تحت عنوان “في دقائق تطبيق القانون”: “تحدد دقائق تطبيق هذا القانون بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الداخلية والبلديات.”

وفي المادة 118 تحت عنوان” في عملية الاقتراع”: يجري الاقتراع في الخارج على أساس النظام النسبي ودائرة انتخابية واحدة قبل 15 يوما على الأكثر من الموعد المعين للإنتخابات في لبنان (..)

إشكاليات قانونية

  1. لم يحتوِ القانون على أي مادة تتعلّق بكيفية الترشح وأهلية الترشّح. سيكون التمثيل عن الناخبين المقيمين في 6 قارات ولكن ماذا عن الدول داخل هذه القارات، ما هي المعايير في اعتمادها؟ عدد المسجّلين فيها؟ أم يبقى الترشّح حرًا شرط أن يكون في القارة المعنية؟ مَن هو المؤهل للترشح؟ ماهي مواصفاته؟ كيف تُحدّد طائفة المقعد؟ 

  2. كذلك لم يحتوِ القانون على مهل زمنية لفتح باب الترشح والعودة عنه والالتحاق بلائحة ومهل الطعن في رفض تسجيل لائحة أو مرشّح…إلى آخره.

  3. لم يحتوِ القانون على  مواد تتعلّق بمهام ودور النائب عن غير المقيمين . وكيف سيصوّت على قرارات الجمعية العامة واللجان النيابية وكيف سيمّثل ناخبيه في البرلمان ويدافع عن قضاياهم ؟ هل عليه الحضور إلى لبنان؟ وما هي البدائل؟ 

  4. لا يحتوي القانون موادًا تتعلق بكيفية رقابة “هيئة الاشراف على الانتخابات” على إنفاق المرشحين في الخارج، وعلى حساباتهم المصرفية وحسابات حملاتهم. كما لا يتضمن كلمة عن كيفية الرقابة على وسائل الاعلام في الخارج، الصمت الانتخابي، المخالفات، والعقوبات وكيفية تنفيذها.

    1. لم يذكر القانون كيف سيُعاد تخفيض عدد نواب الداخل بستة نواب، ما هي المقاعد التي ستُلغى ووفق أية معايير. 

    لا أظنُّ قضايا دقيقة بهذه الأهمية والتأثير ستنجح بالتصدّي لها مراسيم تُتَّخَذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير الداخلية!!  ومرّة جديدة ستطلّ إشكالية  لزوم تعديل القانون، لإضافة موادٍ كثيرة لا تحتملُ الإهمال، وإلاّ عَرّضَت نتائج الانتخاب لطعونٍ دستورية، من حيث خبّأها جيّدًا مَن يتهّم الآخرين بمحاولة سلب حق الناخبين في الخارج. وفي جميع الأحوال  لن تكون فرصةُ مجلس الوزراء، في ظل التوازنات الحالية المفتعلة، في الاتفاق على هذه المراسيم أفضل حالًا منها في مجلس النواب.

    خلفية سياسية

    في نظرة سريعة على نتائج انتخابات الخارج سنة 2022 للأحزاب والتيارات الرئيسية، تروي لنا الأرقام الحكاية كلّها. النواب “التغييريون” (أو 9 من أصل 13 منهم) حازوا على النسبة الأعلى من أصوات غير المقيمين (34%) فيما حصلوا على 11% من أصوات الناخبين في لبنان. في المرتبة الثانية جاء حزب القوات اللبنانية (20% من أصوات غير المقيمين و10% من الداخل) ومن ثم حزب الله (8% من الخارج مقابل 19% من الداخل)، ثم التيار الوطني الحر (7% من الخارج و 7% من الداخل) ، حركة أمل (5% من الخارج و11% من الداخل)،الحزب الاشتراكي (3% من الخارج و4% من الداخل)، وتيار المستقبل (1% من الخارج  و4% من الداخل). 

    أخذًا بالاعتبار بعض مؤشرات الانتخابات البلدية والاختيارية هذه السنة، إلى المتغيّرات الهامة على الصعيد اللبناني والإقليمي، وما قد يعكسه (أو لا يعكسه؟) العهد الجديد على المزاج الانتخابي العام، مع الحذر في القفز إلى استنتاجات ضخمة، يُفترض هذه السنة أن يتابع حزب القوات اللبنانية تقدّمه في بيئته على حساب التيار الوطني الحر. بينما من المُبكر الآن حسم تراجع “الثنائي الشيعي” في بيئته، قبل تسليم السلاح وبسط سلطة الدولة كما وعَدَت في خطاب القَسَم والبيان الوزاري، وقبل الشروع بإعادة الإعمار. 

    ولكن من دون قطع  تذكرة إلى سيرك التكهّنات الإقليمية والدولية الغامضة، ماذا يملك الحزب لحفظ رأسه إذا دارت الدوائر وسلَّم سلاحه، غير وزنه الشعبي المقرَّش في قاعدة أوصلت للثنائي 27 نائبًا شيعيًا من أصل 27؟ من هنا طبول معركة كبرى تُقرع بعنوان سدّ كل الثغرات التي قد يعبر منها خسران الثنائي ولو لمقعدٍ واحدٍ من مقاعد الطائفة الشيعية. وقد تكون، بعد أن حُسِمت معركة السلاح، آخر وأقسى معارك الممانعة.

    تهافت الحجج

    إحدى الحجج السياسية التي يطرحها الحزب، ليس لإبعاد كأس التعديل وإنما على ما يبدو لتطيير إقتراع غير المقيمين بالكامل، هي زعمه “عدم تكافؤ الفرص أمام المرشحين في الخارج. لأن الحزب مصنّف إرهابيًا في كثير من الدول الغربية، فحرّية مرشّحيه وناخبيه غير مؤمنة في الخارج”. إن أردنا عدم الانزلاق إلى سجال حول عدم تكافؤ الفرص أيضًا في لبنان بين مرشحيه والمرشحين والناخبين المعارضين له، ومعاناتهم من القمع الجسدي والمعنوي وشتى أنواع الضغوط التي يمارسها عليهم من دون وازع أو رادع، يكفي الإشارة إلى أرقام انتخابات الخارج سنة 2022 حيث سجّلت نسبة تصويت له (8% من أصوات الخارج) فاقت نسبة التصويت لباقي الأحزاب والتيارات غير المصنّفة إرهابية (ما عدا التغييريين والقوات) للتدليل على تهافت هذه الحجة.

    من جهته، التيار الوطني الحر يستقتل للدفاع عن حق “الانتشار” في التمثُّل بنوابٍ خاصّين له في القارات الست. ويقدّم سردية مليئة بالمغالطات المقصودة لتضليل جمهوره قبل الجمهور الآخر. من جهة يقول النائب باسيل أن مَن يريد تعديل القانون إنما يريد أن يسلبَ “المغتربين” حقهم في التمثيل بستة نواب إضافة إلى 128 نائبًا. قبل أن يستدرك ويوضح أن أمام المغتربين أن يختاروا التصويت من حيث هُم في الخارج لستة نوابٍ أو أن يأتوا إلى لبنان للتصويت لـ128 نائبًا بحسب دوائرهم. فعلًا، أعاد باسيل اختراع العجلة!

    أما القول المُبهَم بحاجة هؤلاء إلى نوّاب يمثّلونهم ويطرحون قضاياهم ويدافعون عنها، فهو فعلًا دعابة مُرّة. فإذا كان المقصود القيام بذلك تجاه السلطات في البلد المُضيف فإن المغترب اللبناني أو المقيم في الخارج، أينما كان في اوروبا، دول الخليج والدول العربية، اوستراليا، أفريقيا أو في الأميركيتين، بالتأكيد ليس بحاجة إلى وسيط مع الدولة التي بحصوله على إقامة فيها أو مجرّد تأشيرة لدخولها يصبح مشمولًا بقوانينها وتشريعاتها، على عكس الحال في لبنان مع الأسف. أما إذا كان يقصد تحصيل حقوقه من الدولة اللبنانية فلماذا لا يتطوّع التيار  لفعل ذلك الآن مع نوّابه وكتلته وحلفائه ودولته وحكومته إن استطاع.

    من جهة أخرى، كيف سيُحاسَب “نائب القارات” من قِبَل ناخبيه؟ قد تفوز لائحة تضم مرشحًا مثلًا مقيمًا في البرازيل حاصدًا 30% من أصوات المقيمين المسجّلين فيها (عددهم 2844 مسجّل عام 2022) و 5% من أصوات المقيمين في فنزويلا ( عددهم 991)  و15% من المسجلين في كولومبيا (عددهم 272)، من الواضح أنه في نظام نسبي ليس فقط قد لا يفوز الأكثر “شعبية” في البلد حيث يقيم وإنما أيضًا قد يفوز بالمقعد مرشح من بلد آخر نال أصواتًا أقل بكثير مما ناله المرشح الأول ترتيبًا. وقد يكون أيضًا من بلدٍ هو الأدنى في عدد المسجلين. فعن أي تمثيل نتحدث؟ وعن أي عدالة في التمثيل؟

    في انتخابات 2022 تسجّل 225114 ناخبًا لينتخبوا بملئ إرادتهم لمرشحي دوائرهم في لبنان. أحدٌ منهم لم يشتكِ من الأمر. على سبيل المثال26459 تسجلوا لينتخبوا مرشحي بيروت الثانية، 15490 تسجلوا للشوف، 13612 للمتن، 13271 لبعبدا، 11487 لصور، 10868 لطرابلس، 9955 لعاليه، 9668 لبيروت الأولى، 9566 لزحلة، 8415  لعكار، 8192 لزغرتا، 7173 لكسروان، إلى آخره.

    على أي حال لو كان التيار صادقًا في ادّعاء الدفاع عمّا يريده فعلا “المغتربون” وحريصًا فعلًا على حقوقهم بالتمثّل بمَن يرعى مصالحهم وقضاياهم، ضنينًا بمشاركتهم وتعلّقهم ببلادهم وعائلاتهم ووطن أجدادهم، كما يدّعي، وليس بعزلهم وتحييد تأثيرهم المُحبِط له، وإذا كان لا يريد أن يكسر القانون الفَلتة الذي اخترعه، لكان اقترح مثلًا إعطاء الحريّة لهؤلاء، عند تقدّمهم للتسجيل في القوائم الانتخابية، من أجل الاختيار بين الإقتراع لمرشّحي الداخل أو لمرشّحي القارات الست. ولكن ألا يكادُ المريب يقول خذوني؟!

    (مصدر الأرقام الواردة وزارة الداخلية والبلديات ودراسة لمبادرة الإصلاح العربي)