المصدر: النهار
حكيم: لبنان أمام مفترق تاريخي… من الجمود إلى مشروع الدولة أفكار من خارج السياق التقليدي
كتب الوزير الأسبق للاقتصاد وعضو المكتب السياسي الكتائبي البروفسور آلان حكيم في النهار:
“في ظل التغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة، ووسط الجمود السياسي والاقتصادي الداخلي، يقف لبنان أمام لحظة مفصلية تتطلب إعادة صياغة المشروع الوطني برؤية استراتيجية من خارج الصندوق، لا شعارات مستهلكة. الأزمة لم تعد مسألة ملفات متناثرة يمكن معالجتها بشكل مجتزأ، بل هي تعبير عن فشل متراكم في صياغة مشروع وطني جامع، وعن عجز بنيوي في منظومة السلطة عن مواكبة التحولات الكبرى التي يشهدها العالم والمنطقة.
في طليعة التحديات، يبقى ملف سلاح حزب الله الأكثر حساسية وتعقيداً. فالسلاح لا يمكن فصله عن الدور الإيراني في لبنان والمنطقة، ولكن مع اضمحلال هذا الدور واختفاء أعذاره لابدَّ من الانتهاء منه، التعاطي معه بخطاب تصادمي لا ينتج سوى مزيد من الانقسام. المطلوب اليوم مؤتمر مصالحة ومصارحة، يُبنى على الاعتراف بالواقع دون التسليم له، ويهدف إلى صياغة استراتيجية وطنية تتولاها الدولة ويكون الجيش فيها المرجعية الوحيدة للسلاح الشرعي لكن بحزم، جرأة وشجاعة. من هنا تأتي أهمية إعادة تعريف العقيدة الدفاعية، من خلال مجلس وطني موسّع يضم شخصيات مدنية، يواكب التحولات الإقليمية ويعيد الاعتبار لمنطق الدولة، على أن يترافق ذلك مع مسار اقتصادي–سياسي واضح يعيد الجميع ضمن كنف الدولة.
في الموازاة، يتطور المشهد الإسرائيلي الداخلي بسرعة غير مسبوقة، في ظل صراع عميق بين حكومة نتنياهو والمعارضة، بما يعكس اهتزازاً في البنية السياسية الإسرائيلية نفسها. هذا التحول ليس شأناً داخلياً فحسب، بل يفتح نافذة للبنان لطرح نفسه كطرف استباقي لا كضحية دائمة. فالحياد النشط لم يعد ترفاً، بل ضرورة لحماية الداخل من الاستنزاف الدائم على الجبهة الجنوبية. هنا تبرز الحاجة إلى وحدة تحليل استراتيجية ضمن رئاسة الجمهورية تتابع المشهد لحظة بلحظة، وتنتج سياسات مبنية على المعطى لا الانفعال. وقد يكون الوقت مناسباً لطرح مبادرة لبنانية على مستوى الأمم المتحدة، تحت عنوان “السلام مقابل السيادة”، تضع شروط لبنان لأي علاقة مستقبلية مع إسرائيل، وتُعيد ضبط التوازنات على أساس الحقوق والكرامة لا الخضوع والتفريط.
ملف السلام والتطبيع بدوره لم يعد من المحرمات. فمفهوم السلام في ذاته ليس تنازلاً، بل خيار قوة إذا تم من موقع سيادي وتوافقي. التطبيع بحد ذاته ليس الهدف، بل الأساس هو تحقيق سلام عادل وشامل يحفظ سيادة لبنان، ويضمن حقوق مواطنيه، ويضع حداً لحالة اللاسلم واللاحرب. من هنا، يمكن للبنان أن يطلق استفتاءً وطنياً غير ملزم يفتح النقاش المجتمعي حول الموضوع، في خطوة تكسر الصمت وتؤسس لتوافق داخلي واقعي. كما يمكن للدبلوماسية اللبنانية أن تطرح مبادرة مشروطة تعلن استعداد لبنان للسلام الكامل، شرط الاعتراف بحدوده البرية والبحرية، احترام سيادته، وحصوله على مساعدات وتمويل لإعادة بناء ما تكبده من خسائر مادية وبشرية خلال العقود الماضية. ولضمان مقاربة متكاملة، لا بد من تأسيس مجلس خاص بالشؤون الإقليمية يرصد التحولات ويبني مواقف سياسية خارج منطق ردات الفعل.
أما على مستوى الدولة، فإن الأداء الحكومي والمؤسساتي بات عبئاً بحد ذاته. فغياب القيادة الفعَالة، وتآكل ثقة الناس بالمؤسسات، والارتهان للزبائنية والمحاصصة، كلها عوامل تفرض إعادة هيكلة مفهوم السلطة. المطلوب اليوم هو الانتقال من الشعارات إلى الفعل، ومن الإدارة التقليدية إلى القيادة الفاعلة. ينبغي إطلاق منصة رقمية للشفافية تتيح للناس متابعة أداء كل وزارة بشكل أسبوعي، بما يُعيد ربط المواطن بمفهوم المحاسبة والمشاركة. كما يجب فرض نظام تقييم علني لأداء الوزراء والمسؤولين، “أو مؤشر أداء حكومي” شفاف دوري، يُعرض للرأي العام لمحاسبة الطبقة السياسية ويكرّم المنجزين، ويبعد المقصرين، بعيدًا عن المحسوبيات السياسية. فالدولة لا يمكن أن تُدار كإدارة يومية للأزمات، بل كجهاز قادر على رسم مسارات الحل وقيادة التغيير.
الاقتصاد من جهته لم يعد يحتمل الترقيع. النموذج الريعي انهار، والتمويل الخارجي لم يعد متاحاً بالشروط السابقة. الطريق الوحيد للنهوض يكمن في إعادة هيكلة الاقتصاد على قاعدة الإنتاج، الابتكار، والاندماج في الأسواق العالمية. في هذا الإطار، يمكن للبنان تأسيس صندوق سيادي للابتكار والإنتاج، بتمويل من المغتربين والمؤسسات الدولية، يُخصص لقطاعات واعدة كالتكنولوجيا، الزراعة الذكية، الطاقة المتجددة، والصناعة الدوائية. كما أن بناء شراكات ثلاثية بين الدولة، القطاع الخاص، والجامعات يمكن أن يحفّز إنشاء مناطق اقتصادية متخصصة في المحافظات، توفّر فرص عمل وتحفّز النمو من الأطراف إلى المركز. كذلك يجب إعادة توجيه دور مصرف لبنان ليصبح منصة لدعم الاستثمار لا أداة للجمود النقدي.
لبنان ليس محكوماً بالبقاء في المأزق. لكن الخروج منه يتطلب ما هو أكثر من خطط تقنية. إنه يحتاج إلى رؤية سياسية متكاملة، شجاعة في الطرح، واقعية في التنفيذ، واستعداد لدفع ثمن الخيارات الكبرى. المطلوب هو مشروع دولة، لا مجرد إدارة سلطة. في هذا السياق، يجب أن تتمحور الانتخابات النيابية المقبلة في 2026 حول سؤال جوهري: أي لبنان نريد؟ لبنان المحاور، أم لبنان الدولة؟ لبنان الريع، أم لبنان الإنتاج؟ لبنان الفوضى، أم لبنان الاستقرار؟ فالتاريخ لا يرحم المتأخرين.”