إقليمية
الأربعاء ٢٤ أيار ٢٠٢٣ - 13:00

المصدر: سكاي نيوز عربية

قمة جدة.. خطاب عقلاني وارتقاء إلى مستوى التحديات

مؤتمر القمة العربية الثانية والثلاثين، الذي انعقد في جدة في 19 مايو الجاري، تميَّز عن باقي القمم العربية بمزايا عديدة، رغم قِصر فترة الانعقاد وعِظم التحديات التي تواجهها المنطقة العربية.

الميزة الأولى لهذه القمة هي المشاركة الفاعلة للزعماء الذين حضروا بمستويات رفيعة، فالتمثيل كان بمستوى الرؤساء أو نوابهم أو رؤساء الحكومات، باستثناء السودان الذي مثله السفير المخضرِم، دفع الله الحاج علي، بسبب الظروف الاستثنائية التي يمر بها.

حققت القمة انفراجا مهما في العلاقات العربية، وهو حضور الرئيس السوري بشار الأسد، بعد انقطاع دام 12 عاما. كما تميزت بمشاركة شخصية دولية، هي الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

تميز الخطاب العربي بالعقلانية والواقعية، وابتعد كثيرا عن الشعبوية، التي اتسمت بها خطابات العديد من الزعماء سابقا. وبدا الخطاب موحَّدا حول قضايا فلسطين والسودان واليمن وسوريا ولبنان وليبيا وإيران، وكذلك حول قضايا أخرى كالمياه والأمن والتكامل والتنمية الاقتصادية.

ولا يكاد المتابع لخطابات المشاركين أن يفرّق بينها، إلا عند التأكيد على قضايا وطنية متعلقة بالبلد المعني، خصوصا البلدان المبتلاة بالصراعات الداخلية المسلحة، كالسودان واليمن وليبيا وسوريا.

افتتح القمة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية، مرحِّبا بالضيوف جميعا، وبالأخص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس السوري بشار الأسد، متمنيا لبلديهما تجاوز الأزمات التي يمران بها. وبيَّن الأمير محمد موقف بلاده من مختلف القضايا العربية، وجهودها في حل الأزمات العربية، سواء في اليمن أو السودان، أو فلسطين، وطالب بإقامة الدولة الفلسطينية بحدود عام 1967، وأن تكون القدس الشرقية عاصمة لها بما يحقق طموحات الشعب الفلسطيني. وأكد أن المملكة لن تسمح بأن تكون المنطقة العربية مسرحا للصراعات الدولية، واختتم بالقول إن المنطقة تمتلك إمكانيات طبيعية وبشرية وثقافية هائلة تمكِّنُها من تبوء مكانة متميزة وتحقيق نهضة شاملة في جميع المجالات.

الزعماء جميعا رحبوا بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، ودانوا التجاوزات الإسرائيلية المتكررة في الأراضي الفلسطينية، والكل، دون استثناء، طالب بإقامة دولة فلسطينية بحدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وبعضهم، كرئيس الوزراء العراقي، ورئيس مجلس القيادة اليمني، سمّاها (القدس الشريف)، وهو الاسم الذي استخدمه الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات.

ودعا المشاركون، تصريحا أو تلميحا، إلى التسوية الشاملة، وفق المبادرة العربية للسلام، وقرارات الشرعية الدولية. كما شكروا المملكة العربية السعودية لاستضافتها القمة، وأشادوا بسياساتها الرامية لتحقيق التضامن العربي وحل المشاكل المعقدة.

ورحب الزعماء بتحسن العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران، وعبَّروا عن أملهم بأن يكون هذا التقارب بداية لانفراجٍ حقيقي في العلاقات بين دول المنطقة، وتعاون وثيق في المجالات كافة.

الدول العربية عموما لا تريد من إيران سوى أمرٍ واحد فقط، وهو عدم التدخل في شؤونها، مقابل إقامة علاقات مثمرة اقتصاديا وسياسيا، تعود بالنفع على شعوب المنطقة بأسرها. والدول العربية لا تهتم لنوع النظام السياسي في إيران، ولا لسياساته الداخلية، فهذه قضايا تخص الشعب الإيراني وحده. وهذا الشرط العربي ينسجم مع القانون الدولي، ومبادئ السيادة والتعايش وحسن الجوار ومصلحة شعوب المنطقة.

ولأول مرة، يهتم الإعلام العالمي بمؤتمر القمة العربية، إذ تصدرت أخبار القمة نشرات أخبار المحطات الرئيسية العالمية. وكدليل على الأهمية الدولية للقمة العربية، سعى الرئيس الأوكراني لحضورها، ومخاطبة الزعماء العرب مباشرة، وطرح محنة بلاده أمامهم، وذلك لشعوره بأن هذه التجمع مؤثر، ويمكن أن يغيِّر موازينَ القوى، إنْ اتخذَ موقفا في هذا الاتجاه أو ذاك.

وقد شكر زيلينسكي المملكة العربية السعودية لسماحها له بحضور القمة، وأكد على أهمية العلاقات بين أوكرانيا والعالم العربي، قائلا إن أوكرانيا تزود العالم العربي بالقمح، وإن أعدادا كبيرة من الطلبة العرب درسوا في أوكرانيا، وأعرب عن أمله بعودة العرب إلى أوكرانيا بعد انتهاء الأزمة.

وحثًّ زيلينسكي الدول العربية على تفهم موقف بلاده، قائلا إن أوكرانيا لم تبدأ الحرب ولم تعتدِ على أي دولة، وشكا من مساندة إيران لروسيا، قائلا إن المُسيَّرات الإيرانية تُستخدم ضد أوكرانيا، وهي دولة مسالمة، وخلُص إلى القول “لا أعتقد بأنكم ترضون بأي اعتداء على أي دولة. لقد ولّى زمن الاستعمار والهيمنة”.

الزعيم الفلسطيني، محمود عباس، ذكَّر المؤتمرين بالذكرى 75 للنكبة، وأشاد بإحياء الأمم المتحدة لذكراها هذا العام، وسرد ما فعلته إسرائيل من تجاوزات ضد الفلسطينيين خلال السنوات الخمس والسبعين الماضية، داعيا الدول العربية لدعم الشكوى المقدمة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية.

مشكلة اليمن مازالت قائمة، وكان رئيس مجلس القيادة اليمني، رشاد العليمي، صريحا وواضحا في خطابه أمام مؤتمر القمة، إذ قال إن المليشيات التي تدعمها إيران تزعزع استقرار اليمن وتعترض السفن القادمة إلى الموانئ اليمنية، بل وتعيق حتى توزيع رواتب الموظفين. وأضاف أن الحكومة التي يقودها ملتزمة بالهدنة من طرف واحد، وناشد المؤتمرين بممارسة الضغوط “كي تلتزم المليشيات الحوثية بالهدنة أيضا”.

لا شك أن المنطقة العربية عانت كثيرا من التدخلات الإيرانية في شؤون دولها، خصوصا العراق واليمن ولبنان وسوريا، وقد آن الأوان لأن توضع العلاقات على أسس صحيحة، بحيث تخدم الشعوب العربية والإيرانية، التي تعاني غالبيتها من الفقر وتدني الخدمات الأساسية، بل ويعاني بعضها من التمزق والحروب الداخلية.

المشاكل العربية الأخرى، كالمشكلة الليبية والصومالية والسودانية، هي الأخرى مُلِحَّة، وتحتاج إلى تعامل واقعي، يأخذ بنظر الاعتبار إمكانية التوصل إلى حلول عملية مقبولة للأطراف المختلفة. مبعوث السودان إلى القمة، دفع الله الحاج علي، أوضح المشكلة، وأشاد بجهود المملكة لحلها، وأنحى باللائمة على قوات (الدعم السريع) قائلا إنها سعت للاستيلاء على السلطة بالقوة.

إن قرار إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، ودعوة الرئيس بشار الأسد لحضور القمة العربية، قد تعاملا مع القضية السورية على أسس الواقعية. ورغم اعتراض البعض على عودة سوريا، فإن استمرار معاناة الشعب السوري، جراء المقاطعة العربية والصراع المسلح بين الجماعات المختلفة، إضافة إلى الكوارث الطبيعية، لم يعُد خيارا قابلا للاستمرار، خصوصا مع تعثر التوصل إلى حل يرضي الأطراف كافة.

لقد عانت سوريا كثيرا خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، إذ تشرد 14 مليون سوري، وتجاوز عدد القتلى النصف مليون، وتقسمت البلاد إلى مناطق نفوذ تسيطر عليها جماعات مسلحة، بينما تدهور الوضع الاقتصادي والمعاشي والخدمي لعموم الشعب السوري، وكل هذا حدث دون أن يحصل أي انفراج في الأزمة، ولم تتحقق طموحات الشعب السوري في إنجاز التغيير المنشود.

فهل يكمن الحل في استمرار النزيف السوري، بانتظار حلٍ لم يتحقق خلال 12 عاما من الحروب والتمزق والتشرد؟ أم أن بالإمكان سلوكَ طرقٍ جديدة للتوصل إلى حل عملي؟

التحرك السياسي لإنهاء المأساة السورية صار مُلِحَّا، والتفاهم العربي مع النظام السوري قد يخفف حدة الأزمة، وقد يكون نافذةً للتأثير على صانع القرار كي يغيِّر نهجه، الذي تسبب في تمزيق البلاد وتشريد السكان، والسياسة هي في النهاية فن الممكن.

إعادة العلاقات مع سوريا لا يعني نسيان الجرائم التي ارتكبت بحق السوريين، وبالتأكيد لا يعني الوقوف مع الطرف المعتدي، وإنما يعني فتح صفحة جديدة وتبني نهج جديد لمعالجة الأزمة. وقد أشار إلى ذلك معظم الزعماء العرب، وبينهم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي قال إن الحل يجب أن يكون وفق قرارِ مجلس الأمن 2254، الذي دعا إلى أن يكون القرار بأيدي الشعب السوري.

وتبذل المملكة العربية السعودية جهودا واسعة لحل المشاكل العربية المستعصية، خصوصا قضايا اليمن والسودان وسوريا وفلسطين، وهي مؤهلة لامتلاكها الإمكانيات السياسية والدبلوماسية والمادية، وتمتعها بعلاقات جيدة مع مختلف الأطراف، لكن الحلول القابلة للحياة تتطلب تعاون الجميع.

وقد تبوأت المملكة موقعا دوليا متميزا منذ عام 2008، عندما نالت عضوية مجموعة العشرين، (G20)، ذات الاقتصادات المؤثرة عالميا، وكان مقررا أن تستضيف مؤتمر القمة لقادة المجموعة في الرياض عام 2020، لكن جائحة كورونا حالت دون انعقاده فعليا، فانعقد افتراضيا، عبر الاتصال المرئي.

الاقتصاد السعودي حقق نموا غير مسبوق عام 2022، وفق بيانات الهيئة السعودية العامة للإحصاء، إذ بلغ معدل النمو 8.7%، وبذلك تجاوز الناتج المحلي الإجمالي السعودي حاجز الترليون دولار لأول مرة. السياسات المدروسة والهادئة التي سلكتها المملكة، سواء في مجال السياسة أو الاقتصاد، أو العلاقات الدولية، قد أثمرت، ومكَّنتها من كسب ثقة العالم، واتخاذ مواقف مستقلة تخدم مصالحها الوطنية والقومية. وفي هذا درس بليغ لبعض الدول التي مازالت تمارس خطابات شعبوية طوباوية لا تمت للعالم المعاصر بصلة.

وفي عالم يزداد استقطابا، اختطت الدول العربية المستقرة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وكذلك مصر والجزائر والمغرب والأمارات العربية المتحدة وعُمان والأردن، نهجا مستقلا يرعى مصالحها الوطنية، وفق قراءة متأنية ودقيقة للمواقف والتوازنات الدولية.

من الضروري أن يترسخ هذا النهج كي تتبلور السياسات العربية عبر دراسة معمقة للظروف الاقتصادية العالمية، وقراءة دقيقة للمواقف الدولية حول القضايا المهمة، خصوصا الاقتصادية منها، ونظرة واقعية لتحقيق المصالح العربية.

العراق بدأ بالتعافي، ويُسجل لرئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، أنه مهتمٌ، أكثر من سابقيه، بالاقتصاد، وبتبني سياسات عقلانية متوازنة، وكان هذا واضحا في خطابه خلال قمة جدة، إذ دعا الجامعة العربية إلى إقامة تكتل اقتصادي عربي، معلنا أن العراق سيستضيف مؤتمرات عدة عام 2023 منها (مؤتمر بغداد للتكامل الاقتصادي) و(مؤتمر طريق التنمية). كما أعلن أن بغداد ستستضيف القمة العربية الرابعة والثلاثين عام 2025.

رئيس وزراء لبنان، نجيب ميقاتي، شرح مشاكل لبنان السياسية والاقتصادية، شاكيا للمؤتمر عبء اللاجئين السوريين على بلده، وداعيا الدول العربية “لشد عضده”، كي يتجاوز مصاعبه الاقتصادية، مقدما شكره للعراق على مساعدته له، ومشيدا بالمملكة العربية السعودية والتقدم السريع الذي حققته، داعيا إياها لإسعاف لبنان.

أما الرئيس التونسي، قيس سعيد، فقد أشار إلى وجود تحديات كبيرة تواجه العالم العربي، أهمها “الحفاظ على دولنا”، محذرا من القوى التي “تريد إسقاط الدولة كي تغيب المؤسسات وتعم الفوضى بالاقتتالات الداخلية”.

العاهل الأردني، عبد الله الثاني، دعا إلى تطوير آليات العمل العربي المشترك والاهتمام بالتعاون الاقتصادي، مشيدا بالشراكة بين الأردن ومصر والعراق، والأردن ودول الخليج العربي. كما أكد أن “فلسطين مازالت القضية العربية المركزية، وإن لم تُحَل المشكلة، فإن المنطقة بأكملها ستبقى تعاني من صراع متصاعد”. وشدد على أن “استقرار العراق هو استقرار لمنطقتنا، وأمنه جزء من أمننا القومي، وأننا ندعم الخطوات التي تقوم بها الحكومة العراقية، بما يعيد للعراق دوره ومكانته ضمن محيطه العربي، ويعزز استقراره وازدهاره وسيادته على أرضه”.

للأسف مازالت هناك قوى في بعض الدول العربية تسعى لزعزعة استقرار الدولة، تحت شعارات وذرائع واهية، مرة باسم الدين وأخرى باسم المظلومية، وهذه القوى تغفل، أو تتجاهل، أن المبدأ الأهم في العالم المعاصر هو تماسك الدولة وقدرتها على خدمة مواطنيها، عبر التنمية الاقتصادية المستدامة وتعزيز سلطة القانون.

لدينا دول عربية ناجحة، وقد تحقق نجاحُها باتِّباع سياسات مدروسة حظيت بثقة الشعوب ودعمها.

لقد تميزت قمة جدة بشعور طاغ لدى الزعماء العرب بضرورة التضامن من أجل الارتقاء إلى مستوى التحديات، لذلك حرصوا على تجنب الخلافات، والتحلي بخطاب هادئ، وسعي حثيث لإيجاد حلول حقيقية للمشاكل العربية، عبر تبني خطط عملية وسياسات عقلانية.

بعض الجهود المبذولة لحل المشاكل نجحت حتى قبل انعقاد القمة، مثل إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، وتحسين العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية، وإبرام الاتفاق بين القوى المتصارعة في السودان وعقد الهدنة في اليمن.

غير أن النتائج النهائية للقرارات سوف تعتمد على مدى التزام الدول العربية والإقليمية بالاتفاقات المعقودة، ومدى التزام الأطراف المختلفة بمبادئ (إعلان جدة)، الذي تمخض عن القمة، ومدى التزام إيران بالتفاهمات والاتفاقات المبرمة معها.

إن التزم الجميع بتطبيق بنود (إعلان جدة)، الذي عالج أهم قضايا المنطقة، وهي فلسطين والسودان واليمن ولبنان وسوريا وليبيا والعلاقة السعودية-الإيرانية، إضافة إلى قضايا التنمية الاقتصادية ورفض التدخلات الخارجية في شؤون الدول العربية، ورفض دعم المليشيات المسلحة خارج إطار الدولة، فإن الشرق الأوسط مقدمٌ على مرحلة جديدة من السلام والأمن والتعاون والرخاء. الجميع يتمنى ذلك، لكننا نعلم أن الطموح شيء، والممكن شيءٌ آخر.