المصدر: المدن
غزة..فضاء الاستثناء وانفلاته
تدخل المذبحة في غزة مرحلتها الثانية، بعد الدعوات المتراكمة من المنظمات الدولية العاجزة، وبعد التصريحات العلنية والروتينية للحكومات، وبالأخص الغربية منها، الداعية لحماية المدنيين واحترام القانون الدولي. وتيرة الموت لا تهدأ ومعدلات إحصاء الجثث كما هي في المرحلة الأولى، وكما في الشمال. تتلوث الأرض بعار موت الأطفال، طفل يقتل كل عشر دقائق.
الحث الأميركي للحليف الإسرائيلي لتخفيف حساب الموت اليومي، تنفيه تصريحات أميركية أخرى، أو أحياناً عبارة تالية بالكلمة نفسها: “لا دليل على استهداف إسرائيل للمدنيين”، “الجيش الإسرائيلي من أكثر الجيوش احترافية”.
تُسقط الطائرات الإسرائيلية آلاف المنشورات، تحوى خريطة معقّدة ومكوّدة، وتطالب السكان المهجرين مرتين وثلاث خلال أقل من شهرين، أن يتبعوا شاشة تفاعلية لأماكن الاشتباكات ساعة بساعة، والنزوح طبقاً لتعليمات جيش الاحتلال من بلوك إلى آخر، فيما الكهرباء مقطوعة وشبكات الاتصالات متقطعة. الأمر أشبه بمزحة مهينة، حيث يتحول مئات الآلاف المكومون فوق بعضهم البعض، والمحرمون من أساسيات الحياة، إلى عبء على لعبة الحرب، باعتبارهم احتياطي جثث أو فائضاً من البيادق التي لا يؤثر موتها في موازين المكسب أو الخسارة. لكن الولايات المتحدة ومسؤولين غربيين آخرين يعلنون رضاهم عن الترتيبات الجديدة.
تتباهى إسرائيل بأن مقابل كل ثلاثة قتلى من المدنيين، هناك قتيل من “حماس”. هذه نسبة خطأ عرضي (متعمد بالتأكيد) بمعدل ثلاثة أضعاف، خطأ بنسبة ثلاثمئة في المئة. حوالى مئة ألف مبنى تم تدميره، وتتوسع إسرائيل في تحطيم كل مقومات الإدارة المدنية، تنسف الجامعة الإسلامية ومجمعاً للمحاكم والمرافق كلها، هذا غير استهداف المستشفيات كما المرة الأولى.
القاعدة هي التي تخلق الاستثناء بتعليق نفسها. وهذه حرب، إن صحّت عليها صفة الحرب، مؤسسة على الاستثناء، أكثر من استثناء في الحقيقة. إسرائيل، “تلك الأمة التي ليست ككل الأمم”، محصنة منذ لحظة تأسيسها ومعفاة من الخضوع للقانون، بحكم استثناء اختيارها الإلهي تارة، وبصكوك دَين الهولوكوست تارة أخرى. الفلسطيني في المقابل، وهو الذي يبتغي أن يكون “أمة مثل الأمم”، محروم من حق الوجود السياسي. حالة الاستثناء، لا تتطلب تعليق القانون دائماً، بل إيجاد تصنيفات جديدة للتخفف من الالتزامات أو إسقاط بعض الحقوق.
إسرائيل، بوصفها صاحبة السيادة، فرضت على الفلسطينيين تراتبية من التقسيمات، منها أنصاف المواطنين، واللاجئين، اللاجئين في الخارج واللاجئين في الداخل، والخاضعين لحكم الإدارة المدنية للسلطة الفلسطينية وللسلطة العسكرية لإسرائيل، والمتفاوتة قواعد حقوقهم بحسب تقسيم المناطق “أ” و”ب” و”ج”. ويأتي سكان غزة في ذيل اللائحة، وموضعهم خانة استثناء الاستثناء. وفي تلك التقسيمات كلها، تمارس إسرائيل سلطة القانون، من حيث إن وظيفته هي المراوحة بين الإقصاء والضمّ، وخلق مساحات رمادية من الالتباس واللامبالاة القانونية.
إن حالة الحرب الحالية تفرض طبقة إضافية من الاستثناء على أناس مُستثنين بالأساس ومجردين من حق المواطنة. وهذه الاستثنائية لا تفرضها إسرائيل وحدها، بل أيضاً النظام الدولي المتمركز حول الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. حاول الفلسطينيون في تمرداتهم المتوالية وفي أشكالها العديدة، تحدّي تلك السلطات المتراكبة، من الاحتلال الإسرائيلي والمنظومة الأممية، والتي أرادت أن تكون حياتهم بلا قيمة وألا يحمل موتهم مغزى. المذبحة الدائرة اليوم، وعن عمد، لا تسعى فقط للانتقام، بل لترسيخ مبدأ الاستثناء، أي أن كل محاولة للتمرد لن تعني سوى المزيد من الاستباحة والموت بالجُملة.
الغزاوي، في هذه اللحظة، كونه مستباحاً بكل معنى، لا يتواجد في نظر العالم سوى بصفته البيولوجية المحضة، بمرتبة أدنى من الآدمية. ولا تنشغل المناقشات الدائرة بشأنه بين المؤسسات الدولية والحكومات، سوى بإعالته، وهي إعالة بالمعنى الأكثر بدائية أو لنقل حيوانية، أي تقديم الطعام والماء والمأوى والعلاج. وحتى هذا لا يتوافر في حده الأدنى. في المدى القصير، يدور الحديث عن دخول المساعدات ووتيرتها، أما بالنسبة للخطط طويلة المدى فتتركز حول إبعاد السكان، على مسافة من الوجود الطبيعي للحياة اليومية، وهذا عبر الطرد أو الحصار. لهذا، فإن النقاشات والمخاوف في إسرائيل وفي مصر، حول هذا الفائض البشري من الحيوات العارية لسكان غزة، تنصب على بدائل التهجير القسري، وخفض عدد السكان بأي وسيلة، ومن ضمنها الموت، أو التوزيع على دول العالم والتشجيع على الهجرة.
السيادة تعنى الممارسة الظرفية للسلطة، بما يعنيه هذا من استحضار استثناءات معيارية، مؤقتة أو دائمة. في ما يبدو، تهدف الإدارة الأميركية لأن تضع استباحات الحرب الدائرة، حدّاً للاستثناء، بتفعيل سراب حل الدولتين. هذا استثناء مؤقت، أو على الأقل، وعد بمحدوديته الزمنية. والحال أن الأهداف المتعارضة وغير الواقعية للحرب الإسرائيلية، بالإضافة إلى النتائج العسكرية الهزيلة، باستثناء القتل الواسع والخراب، لا تشير إلى أن ثمة حسماً في الطريق. يفتح هذا الطريق نحو استثناء مؤبد، أي حصار طويل وأقسى من الماضي، يُفرض على القطاع، والنزول بمقومات الحياة إلى أدنى حدودها، مع حالة حرب دائمة تستدعي عمليات عسكرية متواترة واحتلالات مؤقتة أو جزئية.
في غزة، حيث تجابه سلطة العنف المطلقة، حيواتٍ صرفة، قد يثبت الاستثناء القاعدة، مرة أخرى كالعادة. لكن انفلات الاستباحة بهذه الوحشية، قد يكون مقدمة لتعميم مخيف للاستثناء، لا يمكن تصور حدوده.