المصدر: اندبندنت عربية
“مطرقة منتصف الليل” فصل جديد من الفوضى وسياسة القوة
ملخص
يلاحظ أن سلوك ترمب في قمة مجموعة السبع الأخيرة، منتصف يونيو (حزيران)، أصاب الأوروبيين بالدوار. وهم حرصوا أشد الحرص، في قمة لاهاي الأطلسية، على تجنّب استفزازه
في صيف 2021، سحب جو بايدن القوات الأميركية من أفغانستان على عجل، ومن غير خطة. وعاد الانسحاب المرتجل والمتعثر على القوة الأميركية، وعلى الغرب كله، بخسارة استراتيجية سارعت إيران وحلفاؤها في “محور المقاومة” إلى استغلالها. وكذلك فعلت روسيا التي شنت “عمليتها العسكرية الخاصة” على أوكرانيا (في فبراير/ شباط 2022)، ما تقدم من خلاصات مقابلة نشرتها “لوموند” الفرنسية مع مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، تومار غومار. وينبه الباحث الفرنسي إلى أن دونالد ترمب قصف إيران مباشرة بعد مبادرة إسرائيل إلى قصفها، على خلاف كل التوقعات. ولم يكن مضى على الخسارة الاستراتيجية التي تقدم ذكرها أكثر من أربع سنوات. وخالف القصف خطاب حركة “ماغا” (مايك أميركا غرايت أغين)، ودعوته إلى التخلي عن التدخل العسكري، وانحرف صوب سياسة المحافظين الجدد، ونهج استعمال القوة استباقياً في التصدي للمشكلات العصيّة على الحل. والحق أن الردع هو مجموع المقالات والقدرات، وهو، أولاً، إرادة الانتقال إلى الفعل. وعلى هذا، ما صنعه دونالد ترمب هو إثبات مركزية الولايات المتحدة الاستراتيجية من جديد، وبعد تواري هذه المركزية أو ضعفها في أعقاب عثرة الانسحاب من أفغانستان.
ومن حملوا تجديد المركزية هذا على عودة القوة العظمى، على ما حصل غداة انهيار الاتحاد السوفياتي، يبالغون بعض الشيء. فدونالد ترمب، من وجه آخر، لم يستطع فرض حلوله لا في غزة، ولا في أوكرانيا. وهو أعلن وقف إطلاق نار في إيران منذ 23 يونيو (حزيران). فهل يسعه فرض التقيُّد به على الأمد البعيد؟ ويرى غومار أن مصدر التغيّرات في الشرق الأوسط اليوم ليس ترمب بل بنيامين نتنياهو. وكائناً ما كان الرأي في رئيس الوزراء الإسرائيلي، ينبغي الإقرار له بالمهارة الاستثنائية التي أمكنته من استدراج رئيس الولايات المتحدة إلى صنع نقيض ما كان عقد العزم على صنعه: أي القصف عوض المفاوضة. فمنذ 1979، ارتكبت الجمهورية الإسلامية خطأً فادحاً في التحليل الاستراتيجي حين زعمت لنفسها القدرة على مبارزة الولايات المتحدة ومنازلتها منازلة غير مباشرة، بينما هي، في جوهرها، قوة إقليمية. وحسبت إيران أن الصناعة النووية هي وسيلتها إلى الخروج من مرتبتها الإقليمية. وهي اليوم، تسدد نقداً ثمن مزاعمها، وتكلس نظامها السياسي.
والقصف الأميركي رسالة إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وكان باراك أوباما أهان بوتين حين قال في روسيا إنها “قوة إقليمية”. وهذا خلاف فعل دونالد ترمب الذي ماشى خطابه خطاب الكرملين، وتخلى عن أوكرانيا. ولكنه يخاطب الكرملين، من باب القصف. ولا وجه للمقارنة بين الفاعلية العسكرية الأميركية- الإسرائيلية في إيران وبين الركاكة الروسية- الإيرانية في أوكرانيا. والاحتكام إلى معيار السيطرة على الدوائر المشتركة (الفضاء الجوي وأهداف القصف) يمتحن تآكل العمليات الروسية وهرمها، ويكبدها خسائر بشرية فادحة.
ويخاطب (ترمب) شي جينبينغ، من الباب نفسه، ويقول، ضمناً، إن الصين، على خلاف الولايات المتحدة، لا تتمتع بمصادر طاقة مستقلة، ومصدرها الأول هو الشرق الأوسط. وإن دل القصف الأميركي على أمر، فهو دل على أن اليد الأميركية هي العليا في الشرق الأوسط هذا. وكانت بكين عبّأت دبلوماسيتها في سبيل تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران، في 2023. وفي مواجهة رئيس الولايات المتحدة، ومبادرته إلى اتخاذ إجراءات تجارية وعسكرية راسمة، على جينبينغ تجديد احتسابه علاقات القوة، من ناحية، وتجديد إعلانه استخفافه بالقانون (الحق) الدولي، من ناحية أخرى.
وما يريده دونالد ترمب، ويسعى فيه قبل أي أمر أو غرض آخر، هو الفوز بجائزة نوبل للسلام، وحيازته أكبر ثروة في العالم. وعلى صعيد المالية العامة (الموازنة)، تدل القرائن على أن الولايات المتحدة تباشر انسحاباً، عسكرياً بنيوياً، من أوروبا في المرتبة الأولى. وسبق لدونالد ترمب أن كرر رفضه اللجوء إلى الحرب. ويتماشى هذا الرفض مع أماني قاعدته الانتخابية، وهو سارع، بعد القصف، إلى إعلان وقف إطلاق نار، إيذاناً بحرصه على البقاء في إطار عملية عسكرية خاطفة وحاسمة، على رغم أن خاتمة الحرب، على خلاف بدايتها، في طي المجهول على الدوام. وعلى سبيل التذكير، أعلن جورج دبليو بوش، إنجاز المهمة في مايو (أيار) 2003، بعد ستة أسابيع من بدء القصف على عراق صدام حسين. والبقية غنية عن الذكر.
والأوروبيون، على رغم إغفالهم وهامشيتهم، يتقدمون هذا المشهد، فمجتمعاتهم يتعاظم انقسامها جراء النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني وتوسعه. وبعضها ضحية العداء التاريخي الذي تكنّه لها جمهورية إيران الإسلامية. وثمة رهينتان فرنسيتان، سيسيل كوهلر وجاك باريس، تقبعان هناك. وتدعم إيران حرب روسيا على أوكرانيا، قلب أمن الأوروبيين. وهؤلاء عالقون في فخ الارتجال الصناعي والعسكري والوطني المدني حيال روسيا. ولا يزالون على ترددهم، على رغم موقف دونالد ترمب الجديد والصادم والوضع الميداني.
في شباط (فبراير)، اقترعت إسرائيل والولايات المتحدة والمجر مع روسيا ضد مشروع قرار تقدمت به أوكرانيا إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وهذا الاقتراع انقلاب ديبلوماسي لم يحتسب الأوروبيون النتائج المنطقية المترتبة عليه: أي أنهم قد يلفون [يجدون] أنفسهم وحدهم في مواجهة موسكو في وقت وشيك. وتركهم أوكرانيا إلى مصيرها يعجّل في الأمر. وفي الأثناء، تقصف إسرائيل إيران، وروسيا تقصف أوكرانيا، ويمد ترمب إسرائيل بالسلاح، ويحجم عن مد كييف. والأوروبيون يتفرجون.
ويلاحظ أن سلوك ترمب في قمة مجموعة السبع الأخيرة، منتصف يونيو (حزيران)، أصاب الأوروبيين بالدوار. وهم حرصوا أشد الحرص، في قمة لاهاي الأطلسية (24- 25)، على تجنّب استفزازه. فقرروا إعلان زيادة نفقاتهم العسكرية، وهم يعلمون أن بعضهم عاجز عن الوفاء بالتزاماته المالية العامة. فقوام السياسة الأوروبية هو المداراة، مهما غلا الثمن، في سبيل المحافظة على مرابطة قوات أميركية رادعة على الأرض الأوروبية.
وعلى سبيل التذكير، أجمعت روسيا وألمانيا وفرنسا، في 2003، على معارضة التدخل البريطاني- الأميركي في العراق. وأدت هذه المعارضة إلى تقسيم الاتحاد الأوروبي عشية توسيعه إلى بلدان مؤيدة لواشنطن يومذاك. والواقعة هذه هي في مثابة الحسيب الصارم على الديبلوماسية الفرنسية التي لم تُشفَ بعد من وقوفها الموقف الصحيح والسليم وعجزها عن تغيير مسار الحوادث.
وعليه، توسلت باريس بالملف الإيراني إلى تثقيل السياسة الأوروبية، وتضمينها مادة على جانب من الأهمية. فابتكرت صيغة اللجنة الثلاثية الأوروبية (باريس ولندن وبرلين)، تتقرب بها من واشنطن إلى حين انتخاب ترمب إلى ولايته الأولى. فكانت قمة مجموعة السبع في بياريتز، في 2019، ومحاولة الوساطة الأوروبية بين الرئيس الأميركي وإيران.
والحق أن التذكير بسابقة 2003 لا يخلو من الالتباس. ففي 2011، تدخلت فرنسا في ليبيا. وإلى إيران، أيدت روسيا بشار الأسد في سوريا، ولم تحل دون سقوطه. أما ألمانيا، فكشفت حرب أوكرانيا عن تبعيتها النفطية، والغازية لروسيا، وعن الحال المزرية التي تتخبط فيها قواتها المسلحة. ويأمل الأوروبيون بدوام الحماية الأميركية من التهديد الروسي، ونهاية حرب أوكرانيا للعودة إلى الحال الاستراتيجية المعتادة والسوية، والأغلب على التقدير أن يخسروا الأمرين: الحماية والعودة. فإلى التراجع الأميركي ثمة أفول أوروبي وعجز عن رص الصفوف واتخاذ موقف يرسخ قرارها المستقل في وقت تعتمد على الحماية الأميركية.
أما في الشرق الأوسط فالدور الأميركي لا يزال راجحاً على رغم دعوة مستشار الأمن القومي الأسبق زبيغنيو بريجينسكي بلاده قبل سنوات إلى الانسحاب من المنطقة هذه وتسليم الدفة إلى الصين التي تعتمد على نفطها بينما كانت الولايات المتحدة على مشارف الإكتفاء النفطي الذاتي.